لبنان: الرَقمَنَةُ هي الطريقُ الوحيد لاستعادةِ ثقةِ المواطنين بإدارات الدولة

لا شك أن الاستثمار في أول منصّة رقمية للحَوكمة الإلكترونية في لبنان (إمباكت) سيعود بالفائدة على المواطنين ويُعزّز المُساءلة بشكلٍ كبير.

“إمباكت”: منصّة ثوّرت عمل جهاز التفتيش المركزي وبعض المبادرات الوزارية في لبنان

غيداء طيّارة *

الأزماتُ المُتعدّدة التي عصفت بلبنان منذ العام 2019 هي نتيجةُ سنواتٍ من الحُكمِ غير المُقتَدِرِ والفسادِ الصارخ. وبينما ساهمت عناصرُ كثيرة في المشاكل التي تواجهها الدولة اللبنانية، فإن الافتقار إلى المُساءلة والشفافية في الإدارة العامة والسياسات الحكومية يُعَدّ من العوامل والأسباب الأساسية. تتمثّل إحدى طرق التغلّب على ذلك في الانتقال إلى حكومة رقمية (إلكترونية)، والتي قد تتضمّن فوائدها مزيدًا من الشفافية، وتقليل الفوضى، ومزيدًا من المُساءلة.

في آذار (مارس) – نيسان (أبريل) 2020، أطلق جهاز التفتيش المركزي اللبناني موقع البيانات المفتوحة “إمباكت” ( IMPACT)، أو المنصّة المشتركة بين الوزارات والبلديات للتقييم والتنسيق والتتبع. و”إمباكت” هي عبارة عن منصّة حَوكمة إلكترونية – الأولى من نوعها في لبنان – تُقدِّمُ خدماتها للمواطنين وموظفي الدولة والمنظمات غير الحكومية.

بدأت فكرة “إمباكت” مع الحاجة إلى منصّة تُزوّد مفتشي جهاز التفتيش المركزي ببيانات مُحَدَّثة من مختلف قطاعات الحكومة بشكلٍ رقمي. تم تطوير المشروع من قبل شركة “سيران أسوسياتس” (Siren Associates)، وهي شركة غير ربحية مُتخصّصة في إصلاح القطاع العام، وبتمويلٍ من السفارة البريطانية في بيروت.

على الرغم من أنها أُنشِئت في البداية لجمع البيانات لأغراض التدقيق، سرعان ما وسعت “إمباكت” دورها مع بداية جائحة كوفيد-19، إلى أداةٍ لإدارة الأزمات تستخدمها الهيئات الحكومية المركزية والمحلية والصليب الأحمر اللبناني. علاوةً على ذلك، مع ترسيخ الإغلاق على الصعيد الوطني، وفّرت “إمباكت” المنصّة اللازمة لإدارة تصاريح تنقّل المواطنين. في الآونة الأخيرة، تم استخدام المنصّة لإدارة جهود توزيع لقاح كوفيد-19 بالتنسيق مع وزارة الصحة.

لم يكن وضع كوفيد-19 هو الحالة الوحيدة التي تم فيها استخدام “إمباكت” كأداةٍ لإدارة الأزمات. لقد أدّى انفجارُ مرفإِ بيروت في 4 آب / أغسطس 2020 إلى تطويرِ نموذجٍ لتقييم الأضرار ورسم خريطة للأضرار التي لحقت بالمؤسسات الحكومية وتقدير تكلفة إعادة إعمارها.

تُعتَبَر منصّة “إمباكت” اليوم مصدرَ بياناتٍ مفتوحًا للمواطنين والباحثين ووسائل الإعلام لتمكينهم من مُساءلة السلطات المحلية والمركزية عن سياساتهم. بالإضافة إلى ذلك، فإنها تُوفّرُ لموظّفي الحكومة وصنّاع القرار بياناتٍ مُخَصَّصة لتعزيزِ عملية صنع القرار، ما يسمح لهم باتخاذ قرارات قائمة على الحاجة بدلاً من التقييمات التعسّفية. على سبيل المثال، يُمكن للبرلمانيين الوصول إلى منصّةٍ مُتَخَصّصة بمقاييس في قطاعات مختلفة، تشمل، وليس حصرًا، الصحّة والبنية التحتية والاقتصاد.

علاوة على ذلك، تُوَفِّرُ المنصّة وحداتٍ حكومية داخلية مثل وحدة التفتيش العامة، وهي قاعدة بيانات مُحَدَّثة عن الإدارة العامة، مما يسمح لمُفتّشي جهاز التفتيش المركزي بالكشف الدقيق عن التحدّيات وفُرَصِ الإصلاح في الإدارة العامة. تشمل الوحدات الداخلية الأخرى وحدة القوانين الإدارية، التي تُسجِّلُ جميع القرارات والتعاميم الصادرة عن الوزارات والإدارات العامة. ميزةُ هذا الأرشيف الرقمي تكمن في تنبيهات الإشعارات التي يمكن أن يُرسلها القائم بالتحميل إلى المؤسسات ذات الصلة من خلال “إمباكت”. وأخيرًا، تُحدّد وحدة الموارد البشرية جميع الوظائف في القطاع العام والمهارات واحتياجات التأهيل لتخصيص الموارد بشكلٍ مناسب.

كجُزءٍ من استراتيجيتها الوطنية للتنمية الريفية، استخدمت وزارة المهجرين نظام “إمباكت” لرسم خرائط رقمية لجميع البلدات والقرى اللبنانية باستخدامِ مسح التنمية الريفية والمحلية. ينشر المسح الخصائص الديموغرافية والصناعية والزراعية والبنية التحتية والصحية والتعليمية والسياحية والاجتماعية والثقافية والتجارية لكل قرية. ويقوم النظام بإنشاء مجموعة بيانات تُمكّن صانعي القرار من تصميم السياسات بناءً على احتياجات كل مجال.

في نيسان (إبريل) 2020، تمّ إطلاق بوابة توزيع المساعدات على “إمباكت” بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الداخلية والبلديات والمحافظين والسلطات المحلية ومنظّمات المجتمع المدني، تحت إشراف جهاز التفتيش المركزي. تتضمّن العملية تحديد الاحتياجات، والتحقق من صحة البيانات ومراجعتها، وتصفية أسماء المُستلِمين، وأخيراً توزيع المساعدة بتدابير لمنع الاحتيال الرقمي.

نظرًا إلى فعالية “إمباكت” في تحديد الأُسَر الضعيفة اقتصاديًا، فقد عملت أيضًا كمنصّةِ تسجيلٍ لمبادرة مساعدات البطاقة التموينية. “دعم” (daem)، أو منصة تسجيل البطاقة التموينية، تسمح للمواطنين بالتسجيل لتلقّي المساعدات. ومع ذلك، نظرًا إلى أن الشرائح الأكثر فقرًا من السكان قد لا تتمكّن من الوصول إلى الإنترنت أو الهاتف المحمول، ولضمان وصول المساعدة لمَن هم في أمس الحاجة إليها، تتعاون “إمباكت” مع المنظمات غير الحكومية المحلية من خلال منح أفرادها دورات تدريبية حول كيفية القيام بتسجيل العائلات المحتاجة.

الجدير بالذكر أن التصميم الحديث لمنصّة “إمباكت” (IMPACT)، على عكس المواقع الحكومية الأخرى ذات الصلة، قد لعب دورًا في نجاحها حتى الآن. واجهة المُستَخدِم مُباشرة وسهلة التصفّح. من السهل الوصول إلى المواقع المختلفة وهي واضحة في الصفحة الرئيسة. بالنسبة إلى تصوّر البيانات، تعرض “إمباكت” البيانات باستخدام لوحات معلومات سريعة الاستجابة والتي تُسلِّطُ الضوء على الاتجاهات والأنماط. يمكن للمستخدمين أيضًا تصدير بعض البيانات المُتاحة. ويُرافِقُ النموذج حضورٌ قوي ونشط على وسائل التواصل الاجتماعي، مع فريقٍ مُتجاوبٍ يُجيب عن الاستفسارات على تويتر ومن خلال محتوى مرئي مُبتَكَر على إنستغرام.

تبرز كفاءة “إمباكت” أهمية التعاون بين القطاعين العام والخاص. في حين أن “إمباكت” مملوكة لجهاز التفتيش المركزي، فإن البُعدَ التكنولوجي تديره شركة “سيران” (Siren) الخاصة. عادة ما يمتلك القطاع الخاص موارد أفضل من القطاع العام من حيث الموازنة والتكنولوجيا ورأس المال البشري. ونتيجة لذلك، يُمكن للشركات الخاصة أن تُكمل أوجه القصور في القطاع العام عندما تُتاح لها الفرصة للقيام بذلك.

“إمباكت” (IMPACT) هي أداةٌ رقمية مُتعدِّدة الأغراض ومُفيدة بشكلٍ كبير. تعمل المنصّة على دفع التعاون بين الوزارات إلى الأمام وكذلك التعاون الوثيق بين الحكومة المركزية والسلطات المحلية. تُعتَبَرُ المنصّة أيضًا أداةً لا مركزية قيّمة يجب أن تستخدمها الحكومة بشكلٍ أكبر. تُتيحُ شفافية البيانات، التي يتم جمعها وتوافرها على الموقع الإلكتروني، للمواطنين تولّي أدوار المُساءلة، وتُعزّز البيانات التي تستهدف الهيئات الإدارية عملية صنع القرار في هذه الهيئات. يمكن لرقمنة العمليات الحكومية أن تساعد على الحد من الفساد، وتعزيز جهود التنمية، والمساعدة على إصلاح الإدارة العامة. يتماشى هذا مع الأدوار الرئيسة الثلاثة لجهاز التفتيش المركزي – الرقابة والتوجيه والتطوير.

على الحكومة اللبنانية الاستثمار في منصة “إمباكت” من خلال تضمين المزيد من الخدمات التي تعود بالنفع على المواطنين. من خلال نقل المزيد من عملياتها إلى العالم الرقمي، ستكون الدولة اللبنانية في وضعٍ أفضل لاستعادة ثقة مواطنيها.

  • غيدا طيارة هي منسقة رئيسة للشبكات الرقمية والويب في مركز مالكولم إتش كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @Ghidatay

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى