لبنان: ضَربَةُ المُوازَنة و”وَهبُ” أملاكِ الدولة

الدكتور غسان الشلوق*

كلامٌ كثيرٌ قِيلَ في مشروع موازنة الدولة اللبنانية للعام 2022. بعضُ الكلامِ صحيحٌ طبعًا وبعضُه الآخر تعوزه مراجعة.

وبدون تكرارِ كلّ ما قيل، لا سيما بالنسبة إلى “الضربة ” القاسية في الضرائب والرسوم، ومنها خصوصًا تلك غير المباشرة، أو إرجاء الغالبية الساحقة من الإنفاق الاستثماري، أو استمرار منطق المراوحة في إعداد الأرقام واللاسياسات أو تجاوز القوانين…

بدون تكرارِ كل ذلك وسواه من المفاصل المُهمّة، يجدر التوقّف عند مسائل أساسية لم تُناقَش حتى الآن، أو هي أُثيرت بسرعة.

من أهمِّها باختصار:

  1. التوجه الخطر لما يُمكن أن يكونَ عمليًّا “وهب ” أملاك الدولة. فقد نصّت المادة 117 من المشروع على إمكانية تأجير أملاك الدولة غير المبنية (والمبنية)، أي الاراضي، لمدة تسع سنوات قابلة للتجديد، والسماح للمُستأجر بإقامة “إنشاءات” (أي مَبانٍ) على هذه الاراضي “بعد موافقة وزير المالية”(كذا).
    وكان النص السابق (الحالي ) يقول بإمكان تأجير الأبنية العامة فقط لأربعِ سنوات “على الأكثر” “بناءً على تعيين سعرِ افتتاح للمزايدة على بدل الإيجار إثرَ كشفٍ إداري”. وغابَ عن النص الجديد المُقتَرَح بالتالي سعر الافتتاح، والمقصود سعر الحدّ الأدنى، كما توسّعت بشكلٍ كبير مدّة الإيجار وكذلك قاعدة الأملاك التي باتت تشمل الأراضي، وتمّ حصر المُوافقات بوزير واحد (المالية).
    وهذا يعني ببساطة الدفعُ في اتجاهِ حملةٍ واسعةٍ لتأجيرِ الأراضي العامة وإقامة الإنشاءات عليها، وهو ما يؤدّي عمليًّا إلى وضع اليد على هذه الأراضي بما يشبه الهِبة وشبه استحالة استعادتها خصوصًا في ظل حالات الفساد والفوضى الأمنية المعروفة. وواضحٌ أن السلطة التي تقف من دون حراكٍ منذ عقودٍ نتيجة الضعف أو الفساد إزاءَ الاعتداءات على الأملاك العامة بدءًا بالأملاك البحرية والنهرية  – هذه السلطة لن تكون قادرة على استعادةِ أيّ أملاكٍ مُؤجَّرة غالبًا بأسعارٍ بخسة. وهذا يعني أيضًا فتح الباب على انعكاساتٍ سلبية واسعة على غير مستوى اقتصادي واجتماعي وربما أمني.
    ولا بأس من الإشارة إلى أن الأملاك العامة تُعتَبَرُ مع الذهب أحد خطوطِ الدفاعِ الأخيرة في الثروة الوطنية، وربما كانت مُحاولة النيل منها في الظروف الحالية بمثابة جريمة. وكانت محاولة سابقة في نهاية سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي لبيع مخزون الذهب تمهيدًا لهدره قد أُحبِطَت وقتذاك، وهذه محاولةٌ مُماثِلةٌ وربما اخطر تبرز اليوم علمًا أن ثروة الأملاك العامة ربما تجاوزت في تقديراتٍ منطقية الثروة الذهبية. باختصار إن أبسطَ المنطق الوطني والاقتصادي الاجتماعي يفترض التصدّي لهذا المشروع الجريمة، وترك هذه الثروة للمُعالجة وفق خطةِ نهوضٍ شاملة بعيدًا من الفساد، وربما مثلًا في إطارِ تعويضِ أصحاب الودائع المصرفية المسروقة.
  2. تُعطي الموازنة لوزير المال صلاحياتٍ نقدية ليست له مُطلقًا، وتُمهِّدُ بالتالي لزيادةِ الفوضى الكبيرة الموجودة أصلًا في السوق النقدية، كما تفرض ضرائب بعملاتٍ اجنبية في سابقة قلّما عرفتها دولٌ أُخرى.
  3. وتسمح الموازنة لوزارة واحدة (المالية) باختصار الحكومة ووزاراتٍ عدة في حالاتٍ تَفتَرِضُ أقصى شروطِ التشاور وبدون تجاوز السياسات التي يُمكنُ أن تضعها أي وزارة او الحكومة مجتمعة.
  4. وعلى المستوى الاجتماعي، هناك ضربة أخرى قاسية لأبسطِ شروطِ التوازن. فمن جهة هناك أعباءٌ ضريبية هائلة ومن جهة مقابلة لا تتوافر أي تصحيحات مُلِحّة للأجور. ومن العبث الحديث عن “مساعدة” هزيلة سُمِّيَت استثنائية لا تُساوي أصلًا بين العمال والموظفين وبين مَن هم في الخدمة والمتقاعدين. وتؤجّل في الوقت نفسه ديون الضمان بدون موافقة واجبة من الصندوق أو من هيئاتٍ معنية غابت أو جرى تغييبها.
  5. من المُؤشّرات الملفتة أيضًا أن هذه الموازنة ربما كانت واحدة من أصغر الموازنات في تاريخ لبنان. فمن موازنة بحجم 17.1 مليار دولار في 2019 إلى مشروعٍ حالي لا يتجاوز حجمه 2.2 ملياري دولار بالسعر الرائج اليوم. وإذا كان مطلوبًا في الماضي إعادة صياغة واسعة للإنفاق العام – والإيرادات – فإن الأمرَ نفسه يصحُّ الآن لكن بخلفياتٍ مالية واجتماعبة واقتصادية مُختلفة.
  6. يُقدِّرُ مشروع الموازنة حجم العجز ب10,262 مليار ليرة (إضافةً إلى “مزراب الهدر”في الكهرباء بسلفة طويلة الأمد قدرها 5,250 مليار ليرة). والسؤال البسيط: مَن يُغطّي العجز في ظلِّ استحالةِ الاقتراض الخارجي وصعوبة بل ربما شبه استحالة الاقتراض من المصارف؟ يبقى الباب الوحيد وغير المُستحَب في مصرف لبنان الذي ربما تردّد في توفير تسليفٍ إضافي كبير ل”زبونٍ” غير مليءٍ كالدولة اللبنانية، علمًا أن قانون النقد والتسليف يسمح –بل يَفرِضُ- ذلك. وفي مُطلق الأحوال ثمة مخاطر تضخّمية إضافية مَاثِلة.

وبكلمة أخيرة: ليست هذه الموازنة هي تلك الإصلاحية الإنقاذية المُنتَظَرة.

  • غسان الشلوق هو أكاديمي لبناني وبروفِسور في العلوم الاقتصادية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى