جورج صاند مَعشوقَةُ الخالدين

جورج صاند وعاشقها دو موسيه

هنري زغيب*

بين جميع الملامح التي حفظَها الخلود عن الكاتبة الفرنسية جورج صاند (1804-1876) من إِسهامها في نهضة الأَدب الفرنسي، إِلى براعتها ككاتبة قصص، بقيَتْ شهرتها ساطعةً كذلك في علاقاتها الغرامية بخالِدِين في عصرها: بينهم الكاتب بروسبير ميريميه (1803-1870)، الشاعر أَلفرد دوموسيه (1810-1857)، والمؤَلف الموسيقي فردريك شوبان (1810-1849).

فماذا عن تلك العلاقات؟ وكيف عاشتْها الكاتبةُ المعشوقة؟

الحب والعينان مفتوحتان

كان هذا أَعلاه شعارَها في العلاقات العاطفية. لذا، بقدْرما اشتهرت ككاتبة، سطع اسمها كعاشقة ومعشوقة وبقيَت في الذاكرة الجماعية على الأَجيال أَنها أَمضت حياتها في ارتباطات ملتهبة و… خطِرة. ومنذ مطالعها الأَدبية رآها بعضُ معاصريها “شقيقة بايرون الشعرية”: باحثةً بحرارةٍ عن حب انصرمَتْ حياتها ولم تعرفْه. ورآها البعض الآخر امرأَةً ترافقها لعنة الحياة، تدعو في مؤَلَّفاتها وحياتها الشخصية إِلى حريةٍ مطلَقَةٍ ترفض مبادئَ الزواج والعائلة والأُسرة. لذا اهتم المؤَرخون والنقاد بهذه الناحية في حياتها الشخصية والجنسية، معدِّدين عشاقًا تعلَّقوها وعاشوا في كنف حريتها الصريحة منذ روايتها الأُولى “إِنديانا” (1832) وهي أَصدرَتها لا باسمها الحقيقي (آمانتين أُورور دوبين Dupin) بل باسمها الأَدبي الذُكوري جورج صاند، لإِيمانها أَنَّ أَهل الأَوساط الأَدبية والشعبية في عصرها كانوا يحترمون الكاتب الرجل أَكثر من الكاتبة المرأَة، وأَيقَنَتْ أَن مؤَلفاتها ما كانت لتجد رواجها الواسع لو انها أَصدرتْها باسمها الحقيقي.

جمالها سَحَر الأَقلام والريشات

الخلاص من النير الزوجيّ

سريعًا بعد إِصدار روايتها تخلَّصَت من النير الزوجي ومن القيود المفروضة على الأُنثى في مجتمعها، وغالبًا ما أَخذَ كثيرون بعدها يتشبَّهون، أَو يحبُّون في حياتهم الخاصة الحميمة أَن يتشبَّهوا، بما ورَدَ في فصول روايتها بين حريةٍ وتحرُّرٍ من القيود المجتمعية الغارقة في “التابو”. وبين أَفضل ما صدر عنها:  كتابُ أَندريه موروَى (1885-1967) “ليليا أَو سيرة جورج صاند” (1833)، متابعًا فصولَ حياتها تباعًا ومَن مرَّ في حياتها من مبدعين، إِنما جعل ذلك في نسْجه شخصية “ليليا” وما يغتلي فيها من شهوات. وهو استند في هذا النسْج الروائي إِلى دلالات واستنتاجات وافتراضات عادَت فظهرَت في رسالةٍ مفتوحة نشرَتْها جورج صاند سنة 1854 في جريدة “لا بْرِسّ” (الصحافة) أَظهرت فيها لامبالاتها ورفْضها كلَّ ما يقوله المجتمع المغلق في عصرها.

هكذا عاشت جورج صاند، وفي عصرها وحتى اليوم، عرف الجمهور الواسع علاقاتها الحميمة ومغامراتها العاطفية، ربما أَكثر مما يعرف مضمون مؤَلفاتها. ومعها كذلك عُرفَتْ سيرةُ رجال عشقوها (بينهم خصوصًا الشاعر أَلفْرد دوموسيه والمؤَلف الموسيقي فردريك شوبان)، وكانوا جميعًا معروفين في عصرهم وفي بيئة تمجِّد الولَع والولَه والشغَف وما في الحب العاصف من حرارة ومرارة. لذلك، وبسبب شهرتهم عصرئذٍ، راحت صورتها منذ 1832 تلبس إطار الفضيحة.

في خريف العمر

المعشوقة الساحرة

في هذا السياق كتب الناقد جول جانين (1804-1874): “كان كلُّ عشيق لديها يتغنَّى بجاذبيتها التي تفوق الوصف. فصورتُها تتشكَّل مرةً من فتى في الثامنة عشرة وامرأَة جميلة جدًّا في الخامسة والعشرين، أَو من فتى في الثامنة عشرة يدخِّن مأْخوذًا بسحر تلك المرأَة أَمامه، تجذُبُه وتُخضِعه لسحرها الغامض، كأَنها نصفُ رجل نصفُ امرأة، كأَنها نصفُ ملاك نصفُ شيطان”. بهذا الموشور الغريب تتوالد صوَرُها ولا تهدأ، فتظهر موحيةً رومنطيقية غمرَت عصرها بشخصيتها المذهلة أَيقونةَ الحب الرومانسي منذ 1830، كما رسَمَها دوموسيه في قصائده، أَو كما دولاكروى (1798-1863) رسمَها بريشته عاشقةً وَلهى جذابة، أَو كما رسمها سنة 1830 أُوغست شاربانتييه (1813-1880) امرأَةً ذاتَ جمال ساحر تتحدى القيود الاجتماعية المغْلقة.

أَحد الكتب الصادرة عنها

يتوددون إِليها في تَوَلُّه

في جميع تلك الكتابات واللوحات تَظهر جورج صاند المرأَة العاشقة والمعشوقة، يتودَّد إِليها الرجال بطلةً أُنثَويةً معرَّضةً للشغَف العاصف في الحب المجنون. وهي بقيَت هكذا حتى جاءت كاميرا المصوِّر الفوتوغرافي “نادار”، منذ 1860، تلتقطها في خريف شيخوختها، بلحظات مختلفة تمامًا عما كانتْهُ السيدة الشابة العاشقة والمعشوقة أَيامَ كانت “سيدةَ نوهان” الرومنطيقية (بلدة  نوهان، في وسط فرنسا، حيث كان بيتها الذي كانت تستقبل فيه الخالدين إِلى صالونها الأَدبي).

حفيدتُها تصحِّح الصورة

غير أَنَّ في هذه الصورة عن الكاتبة مبالغةً أَوضحتْها سنة 1961 حفيدتُها أُورور (1866-1961) وهي في الخامسة والتسعين حين تحدَّثَت إِلى الصحافي موريس سيفينو (1925-2018) بقولها: “أَخطاء كثيرة حيكَت حول جدتي، معظمُها من سوء الفهم أَو الاستيعاب. فجدَّتي كانت ذاتَ ثقافة عالية، ونُبْلٍ عالٍ، وتَحَفُّظٍ على حياتها الخاصة. فكيف كتبوا ما كتبوا واستعرضوا من حياتها ما استعرضوا؟ كنتُ في العاشرة حين توفيَت، وما زلتُ أَذكرها كأَنها الآن أَمامي: شعر أَبيض كليًّا، عينان غامقتان، وصوت ناحل”. جرى هذا الحديث في بلدة غارجيليس، البعيدة عن نوهان نحو 40 كلم، في بيت أَلكسندر مانصو آخر عشاق جورج صاند التي اكتشفت تلك الناحية إِبان تجوُّلها في المنطقة، فأَحبَّت صخورها ونهرها الجاري في وسطها وكنيستها الرومانية وسطوحها القرميدية وأَزقتها الضيقة وحقولها الخصيبة، وشجعت مانصو على شراء بيت فيها فَفَعَل، وكانت تزوره من نوهان لتُمضي فيه فترات استراحة وكتابة.

وهل يخفى العاشقون؟

هذا التصريح لم يغيِّر كثيرًا في صورة تلك المرأَة الطليعية الـمُطَلِّقة التي اختارت اسمًا ذكوريًّا، وكانت ترتدي البنطلون، وتدخِّن السيجارة باستمرار، وتتحدَّثُ من دون تحفظ عن تعدُّد عشاقها وطبيعة علاقاتها بهم. ومن روَّاد بيتها في نوهان منذ 1830: الروائي هونوريه دو بلزاك (1799-1850)، المؤَلِّف الموسيقي لويس هكتور برليوز (1803-1869)، المؤلِّف الموسيقي فرانز ليست (1811-1866)، الرسام أُوجين دولاكْروى (1798-1863)، الكاتب غوستاف فلوبير (1821-1880)، وآخرون كانوا يؤُمُّون بيتها عشَّاقًا أَو أَصدقاء أَو مُعجَبين، ويُمضون لديها الأَوقات الهانئة بكل أَبعاد الهناءة.

وعند وفاتها كتب فيكتور هوغو: “أَبكي على امرأَة ميتة لكنني أَنحني أَمام امرأَة خالدة”.

هي ذي حياة المبدعين: مهما تخفَّوا وراء ما يريدون إِظهاره، تبقى حياتهم الخاصة ملْك العامة، وتظلُّ عرضة للحكايات والتآويل والإِشاعات السامة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى