مَن هو المُستفيد من تَحالُفِ القاهرة – باريس؟
أدّى التحالف المتزايد بين القاهرة وباريس إلى تنسيق كبير في السياسة الخارجية، وكذلك إلى تداعياتٍ سياسية واقتصادية في كل من مصر وفرنسا.
ماجد مندور*
سرَّب موقع “ديسكلوز” الفرنسي غير الحكومي في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2021 مجموعةً من وثائق الاستخبارات الفرنسية العسكرية السرّية التي تحوي تفاصيل التحالفِ المُتشابك بين الحكومتين الفرنسية والمصرية.
كشفت الوثائق المُسرَّبة، والتي عُرفت ب”أوراق مصر”، النقابَ عن تعاون المخابرات الفرنسية مع الجيش المصري فيما أطلقت عليه فرنسا اسم “عملية سيرلي”، والتي انطلقت في 13 شباط (فبراير) 2016 في الصحراء الغربية بالقرب من الحدود الليبية. بحسب الوثائق فإن عدداً من ضباط المخابرات والطيارين والفنّيين الفرنسيين قد تعاونوا مع القوات المسلحة المصرية في مهمّةٍ كانت أهدافها هي مكافحة الإرهاب ومُجابهة المسلحين الذين داوموا التسلّل عبر الحدود المصرية-الليبية البالغ طولها 1200 كيلومتر.
وكشفت هذه الوثائق الفرنسية أيضًا عن حدوث انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان، أكدتها تقارير وسائل الإعلام المحلية التي وثّقت مقتل ثلاثة مدنيين في غارةٍ جوية في الصحراء الغربية في تموز (يوليو) 2017. وأيضًا مقتل 21 سائحًا مكسيكيًّا في العام 2015، أيضًا في غارةٍ جوية في الصحراء الغربية.
أما الكشف الثاني الذي سرّبته الوثائق فيتعلّق باستخدام الحكومة المصرية نظامٍ سيبرانيٍّ ضخم للمراقبة أقامته ثلاث شركات فرنسية في مصر بموافقة السلطات الفرنسية. وكانت الحكومة المصرية تمكّنت في العام 2014 من الحصول على أنظمة مراقبة الكترونية مُتقدّمة للغاية طوّرتها الشركات الفرنسية العملاقة “نيكسا” و”أركوم” و”سونيرير” و”داسو سيستمز”، وباعتها للنظام المصري بعد حصولها على موافقة وزارة الاقتصاد الفرنسية التي كان يرأسها حينذاك الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون.
الحقيقة أن ما كشفت عنه “أوراق مصر” من تحالفٍ بين الدولة الفرنسية والحكومة المصرية ليس مفاجئاً، بل هو نتاج مجموعة من التفاهمات الإيديولوجية والمصالح والأهداف الاقتصادية والسياسية المشتركة.
فالقاهرة من أهم عملاء قطاع صناعة الأسلحة الفرنسي، وهي ثاني أكبر أسواق المعدات العسكرية الفرنسية بعد الهند. وقد تعزّزت العلاقات المصرية-الفرنسية في ما يتعلق بصفقات السلاح بشكل كبير في الفترة ما بين 2016 و2020، حيث تصاعدت صادرات الأسلحة الفرنسية إلى مصر بنسبة 44 في المئة مًقارنةً بالفترة ما بين 2011 و2015، التي تلقت فيها مصر نحو 20 في المئة من صادرات الأسلحة الفرنسية. وتُعتَبَر الصفقتان الملياريتان التي أبرمتهما القاهرة مع باريس لشراء مقاتلات “رافال” في العامين 2015 و2021 أغلى صفقات الأسلحة التي عقدتها مصر على الإطلاق حيث بلغت قيمتهما 5.2 مليارات و4.5 مليارات يورو على التوالي.
تجدُرُ الإشارة هنا إلى أن القروض التي تمنحها فرنسا لمصر هي أحد المصادر الأساسية في تمويل معظم صفقات السلاح الكبرى التي تتم بين البلدين. فقد منحت فرنسا لمصر في 2015 قروضًا وصلت قيمتها إلى 3.2 مليارات يورو، أما في 2021 فقد اعتمدت مصر على قرض تمويلي فرنسي بقيمة 4.5 مليارات يورو لتتمكن من سداد قيمة صفقة “رافال” الأخيرة.
إن اعتماد النظام الضريبي المصري لمبدإِ الضريبة التراجعية، والذي تتحمّل بموجبه الطبقات الدنيا والمتوسطة معظم الأعباء الضريبية، يعني باختصار أن الحكومة المصرية تنقل قسطًا من أموال دافعي الضرائب المصريين إلى خزائن مصانع الأسلحة الفرنسية، مُقدِّمةً بذلك دعمًا غير مباشر لصناعة السلاح في فرنسا. أما بالنسبة إلى باريس فإن استخدام القروض الفرنسية لشراء السلاح الفرنسي يعني أن الدائن الفرنسي، وبالتبعية الدولة الفرنسية، سيحصدان المزيد من الأموال المُتمثّلة في عائدات فوائد القروض بالإضافة إلى الأرباح التي تَحصُل عليها من مبيعات السلاح. وربما يكون إسناد عملية إدارة العلاقات المصرية-الفرنسية إلى وزارة الدفاع الفرنسية بدلاً من وزارة الخارجية مؤشّراً إلى مدى الاهتمام الفرنسي بصفقات السلاح تلك.
لا يقتصر هذا النمط من التمويل على صفقات السلاح وحسب، فالدولة الفرنسية تستثمر ما يربو على 4.6 مليار يورو في مشاريع البنية التحتية التي تقوم بها الحكومة المصرية بناءً على اتفاقية تم التوقيع عليها في 14 حزيران (يونيو) 2021، وتتضمّن تقديم 800 مليون يورو للحكومة المصرية على شكل قروض حكومية، ومن بينها أيضًا مليار يورو تقدمه وكالة التنمية الفرنسية (AFD)، وملياري يورو على شكل قروض مصرفية تَضمَنُها الدولة الفرنسية على أن تقوم شركات فرنسية بتنفيذ تلك المشاريع.
بالإضافة إلى تسهيل تدفق رؤوس الأموال والثروات إلى فرنسا، فإن حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي والحكومة الفرنسية يتشاركان في العديد من أهداف السياسة الخارجية خصوصًا تلك التي تتعلق بالموقف في ليبيا، حيث قدّمت كلا الحكومتين دعمًا للجنرال الليبي والمرشح الرئاسي الحالي خليفة حفتر في مسعاه لانتزاع السلطة من حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، المعترف بها دوليا في الفترة من 2019-2020. وهو الدعم الذي ترتّب عليه مع تكالب القوى الأخرى على ليبيا مجموعة من النتائج الكارثية أهمها كان تفاقم الحرب الأهلية في البلاد بعد محاولة الفريق حفتر الاستيلاء على طرابلس بالقوة، والتدخل التركي المُكثّف الذي بدأ في كانون الثاني (يناير) 2020، والذي اجتمع الحليفان المصري والفرنسي على معارضته بشدة.
لقد هدّد الرئيس السيسي بالتدخّل العسكري المباشر في الصراع الليبي بعد هزيمة حفتر في طرابلس وأعلن أن أيّ محاولة تقوم بها قوات حكومة الوفاق الوطني المدعومة من تركيا للاستيلاء على مدينة سرت ستُعتَبَر تجاوزًا للخطوط الحمراء يستوجب الردع. ولم يتوانَ الرئيس الفرنسي ماكرون عن ترديد احتجاجات نظيره المصري، حيث أعلن في حزيران (يونيو) 2020 أن فرنسا “لن تتسامح مع الدور الذي تلعبه تركيا في ليبيا”، ودعا أنقرة لسحب قواتها من البلاد. ويجدر الذكر أن العلاقات المصرية-التركية شهدت في ما بعد تحسّنًا، ورُغم ذلك، وخلال مؤتمر باريس الدولي حول ليبيا الذي عُقِدَ في تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، طالب كُلًا من الرئيس المصري والرئيس الفرنسي بسحب القوات الأجنبية من ليبيا وهي الدعوة التي رفضتها تركيا. حتى الآن، لا تزال نتائج التقارب بين القاهرة وأنقرة غير واضحة، في حين يلوح في الأفق احتمالٌ بتخفيف حدّة المواقف من جهة الطرفين.
أما على صعيد الإيديولوجيات المُشتَركة فيبدو أن السيسي وماكرون تجمعهما رغبةً مُشتركة في ما يسميانه “إصلاح” الإسلام وما يترتّب على ذلك من معارضة قوية للإسلام السياسي. ومن المدهش أن كليهما، في سياقه الخاص، يهدف إلى تطويع الخطاب الإسلامي المُسَيَّس ووضعه تحت سيطرة الدولة. على سبيل المثال، في تشرين الأول (أكتوبر) 2020، وصف الرئيس ماكرون الإسلام بأنه “دينٌ في أزمة”، وأعلن عزم حكومته على إصدارِ قانونٍ لمكافحة ما سمّاه ” الانفصالية الإسلامية”. وأعقب ذلك صدور قانون في كانون الأول (ديسمبر) الفائت، يُعزّز رقابة الدولة على المدارس والمساجد والنوادي الرياضية ويسمح لموظفي الدولة بإغلاق المساجد وحلّ المنظمات الدينية بدون استخراج أمرٍ قضائي. وعلى الرغم من أن القانون لا يُسَمّي الدين الإسلامي تحديدًا فليس هناك أيّ شكّ في أنه يستهدف المسلمين الفرنسيين على وجه الخصوص. وتأتي هذه القوانين الجديدة لتؤكد عمق الهوّة بين الرئيس ماكرون واليمين الفرنسي المتطرف حول مُحدّدات سياسات الهوية، وبخاصة في ما يتعلق بسياسات الهجرة والأقليات ومكانة الإسلام والمسلمين في فرنسا.
من جانبه دعا الرئيس السيسي مرارًا وتكرارًا إلى “تجديد الإسلام” في محاولة لإرساء سيطرة النظام على الخطاب الديني والقضاء على مراكز القوى الاجتماعية المُنافِسة للسلطة، خصوصًا الأزهر، وهو المؤسسة الدينية الرائدة في البلاد. وربما يمكن استيعاب محاولات النظام للتحكّم في الخطاب الديني كجزءٍ من مسعاه لخلق قوة اجتماعية مركزية تعتمد على نسخة من الإسلام التقليدي المحافظ ترتضيها الدولة وترعاها.
على الرغم من اختلاف السياقات إلّا أن هذا التماثُل الإيديولوجي بين القاهرة وباريس لا يمكن إغفاله خصوصًا لأنه يُوضّح ولو جزئيًا المُبرّرات الإيديولوجية التي يستند إليها الدعم الفرنسي للحكومة المصرية. في الواقع إن هذا التحالف بين حكومتَي السيسي وماكرون يُنذر بأن ينعكس سلبًا على الاستقرار الإقليمي طويل المدى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فالدعم الفرنسي للحكومة المصرية لا يَحدّ من عمليات القمع ضد المواطنين، وصفقات السلاح تجعل فرنسا شريكًا مباشرًا في إفقارِ الطبقات الدنيا والمتوسطة المصرية.
ومن المهم أيضًا أن نلاحظ أن التحالف بين حكومتي السيسي وماكرون هو جزء من سياسة أوروبية أوسع نطاقًا تتبعها دول مثل إيطاليا وألمانيا وتطبقها، ربما بِشَكلٍ أقل حدة، في إجراءات تصدير الأسلحة والصفقات الاقتصادية. في المدى المتوسط والطويل، قد تؤدي سياسة تجاهل أوضاع حقوق الإنسان والضغوط الاقتصادية في مصر إلى تنامي الاضطرابات الاجتماعية، وعودة التطرّف العنيف، وتزايد تدفق اللاجئين الذين سيحاولون حتمًا الفرار من القمع وتدنّي الأحوال المعيشية.
- ماجد مندور محلل سياسي وكاتب عمود “سجلات الثورة العربية” لدى موقع “اوبن ديموكراسي”. يمكن متابعته على تويتر على: @MagedMandour. لآراء الواردة في هذا المقال تُمثلُ كاتبه.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.