بلادٌ كاملة تعيش على البطَّارية

هنري زغيب*

في مقال سابق لـ”أسواق العرب”، كتبْتُ كم أَننا صاغرون لقدَرِنا، معلَّقون بين عدَّان كهرباء الدولة وعدَّان كهرباء المولِّدات، وكيف نعاني من العتمة الجائحة بين العِدَّانين حين ينقطعان معًا.

اليوم أكتب عن ظاهرة أُخرى من العدَّانات في لبنان، هي ظاهرةُ البطَّاريَّات. نعم: باتت حياتُنا اليومية تحت رحمة البطَّاريَّة حين تنقطع الكهرباء. فبطَّاريَّة الهاتف الخَلَوي تُهَدِّدنا بالانقطاع حين تَفْرَغ من شُحنتها وينتظر شاحنُها عودة الكهرباء. وبطَّاريَّة جهاز “الإِمداد المتواصل بالطاقة” (UPS) تُهَدِّدنا بالانقطاع حين تَفرَغ من شُحنتها الـمُخَزَّنَة فَيَتَوَقَّف الكومپيوتر ويَتَوَقَّف مُوَجِّه الإِنترنت (Router)، وتَتَوَقَّف في المصارف والمستشفيات والمخازن الكبرى والمصانع والمكاتب والبيُوت سائرُ الأَجهزة التي تعمل على البطَّاريَّات الـمُوَقَّتة (UPS) التي ينتظر شاحنُها عودةَ   الكهرباء حتى يعودَ فيَشْحَن البطَّاريَّات من جديد، لمرحلةٍ تاليةٍ من الخدمة الـمُوَقَّتة بَطَّاريًّا بين عدَّان كهرباء الدولة الشحيح دوريًّا، ومسْلخ عدَّان الـمولِّدات مازوتيًّا.

وهكذا تكون بلادٌ كاملةٌ، بأُمها وأَبيها عُمومًا وعُمومَةً وخؤُولَةً، تعيش على البطَّاريَّات. ما أَتعسَها بلادًا تعيش على البطَّاريَّات!

وإِذ نقول بطَّاريَّة، نفكِّر فورًا بشاحنِها الذي لا يعمل إِلَّا على الكهرباء، وحين الكهرباء مقطوعةٌ دولةً ومولِّدًا، يبقى الشاحنُ هامدًا في انتظار التيار الكهربائي الذي يَـحرُم من أَنواره بلادًا بكاملها.

ولكنْ… إِذا كان لبنان فقيرًا بالشَحْن الكهربائي، طاقَويًّا وبطَّاريًّا، فهو غنيٌّ جدًّا بالشَحْن الآخَر المتعدَّد “الأَفضال” و”الفضائل”، من شَحْن سياسي، وشَحْن مذهبي، وشَحْن طائفي، وشَحْن ديني، وشَحْن حزبي، وشَحْن عقائدي، وشَحْن فئَوي، وشَحْن مناطقي، وشَحْن غريزي، وسائر ما يتمتَّع به “بيت بو سياسة” عندنا من سُمُوم الشَحْن بين بعضهم بعضًا، يَبُثُّونها في محاسيبهم الصاغرين وأَزلامهم الأَغناميين فَيَنْشَحِنُ هؤُلاء بالحقد والكُره والبُغض المسموم حِيال إِخوانهم اللبنانيين وَفْقَ شَحْن أَسيادِهم السياسيين أَخصامَهم في السياسة بالحقد والكُره والبُغض المسموم.

وإِذا عتمةُ البلاد، مهما طالت، تبقى مُوَقَّتَة في انتظار عودة الكهرباء، فإِن عتمة السياسيين، طالت وسوف تطول بَعد، ولا رجاءَ من عودة أَيِّ أَملٍ بالنور من سلطتها الفاجرة الفاسدة.

وإِذا عند موت البطَّاريَّة كُلِّــيًّـا لا خلاصَ إِلَّا بتغيــيرها، ففي حالة لبنان، بعد الانهيار الذي أَصابه، لا حلَّ بشَحْن الذين ظلُّوا يَشْحَنون الشعب بالأَضاليل، فلا خلاصَ إِذًا إِلَّا في تغييرهم وشَحْنِهم بعيدًا… بعيدًا عن الساحة اللبنانية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى