عبّاس-غانتس: جلساتُ سَمَر!
محمّد قوّاص*
أن يزور الرئيس الفلسطيني محمود عباس وزير الدفاع الإسرائيلي بني غانتس في بيته قبل أيام، وأن يزور الأخير “أبو مازن” في مقر المقاطعة في الضفة الغربية في آب (أغسطس) الماضي، فذلك أمر يُعبّر بدقة عن الطبيعة الحالية للعلاقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. يغيب التواصل الرسمي بين “دولتين” ويكاد يتحوّل “الصراع التاريخي” إلى نزاعِ جيران يتم تدبيره بـ”زيارات عائلية”.
غير أن السؤال الكبير يُطرح حول سلاسة الوصل بين النظامَين السياسيين الفلسطيني والإسرائيلي، حتى في شكله العرضيّ التقنيّ، فيما لا يزال الوصل بين الفلسطينيين صعباً يكاد يكون مُستحيلًا، بما يديم الانقسام داخل حركة “فتح” نفسها قبل التطرق إلى ذلك الانقسام، الذي بات من بنية النظام الفلسطيني، بينها وحركة “حماس”، بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
سيكون قاصرًا إلقاء اللوم على الطرف الفلسطيني وحده في ما وصلت إليه قضيته السياسية الإنسانية من تدهورٍ وتَراجُعٍ في أولويات العالم والمنطقة كما في أولويات إسرائيل. العالم تغيّر وتبدّلت حساباته وانقلبت موازين القوى. لم يعد الهمّ الفلسطيني بندًا مُتقدّمًا داخل أجندات العواصم القريبة والبعيدة. يمتلك الطرف الإسرائيلي تفوّقًا في موازين القوى يجعله يمضي في إقفال أبواب التفاوض والسياسة، ويتصدّق على القيادة الفلسطينية بتواصلٍ على مستوى وزير (بعد ضوء أخضر من رئيس الوزراء) قد ينتج عنه سخاء منح الفلسطينيين بعض التسهيلات المالية واللوجيستية والإدارية.
ومع ذلك لا يُمكن تبرئة النظام السياسي الفلسطيني، الحاكم والمُعارِض، من أداءٍ مُتراكِمٍ أنتج هذا الوهن في علاقة فلسطين مع الدوائر العربية والإقليمية، كما مع تلك البعيدة التي كانت سجّلت تحوّلات إيجابية في عقود سابقة.
تستمر إسرائيل في ادّعاءِ البحث عن “شريك” في أيّة عملية سلام مزعومة، وهي في هذا الإدعاء تنهل من حالة التصدّع الخبيث داخل البيت الفلسطيني. في حيثيات الوهن تَناقُضٌ قاتلٌ في مقاربة العلاقة مع إسرائيل ما بين النسخ التي أظهرتها حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” والجماعات الدائرة في فلكهما في غزة، والنسخات المرتبكة الركيكية والمتناقضة التي أظهرتها قيادة السلطة في الضفة الغربية ليس فقط في العلاقة مع إسرائيل التي يرقى حدّها الأقصى إلى بلادة “الحرد”، لكن أيضًا في التمتّع بتسعير خلافات جديدة مع البيئة العربية، وهي الحاضنة “الوحيدة” التي لا بدّ منها أيًّا كانت طبيعة هذه الحاضنة وتطوّر همومها وأجنداتها وهوية وجوهها.
لا تحتاج إسرائيل إلى أكثر من مستوى تلك الزيارات “العائلية” للتعامل مع الحالة الفلسطينية. الجدل السياسي الإسرائيلي الداخلي لم يعد يرى بالواقع الفلسطيني تحدّيًا بحدّ ذاته، بل تابعًا لتحديات أهمّ تُمثّلها إيران مثلًا هذه الأيام. يكفي تأمّل غياب “فلسطين” عن الحملات الانتخابية للانتخابات المتعددة التي أجرتها إسرائيل خلال الأعوام الماضية، ويكفي تفحّص حيثيات موقف الإسلامي منصور عباس في التأكيد على يهودية دولة إسرائيل. تعمل الأنتلجنسيا الأمنية الإسرائيلية على الإنشغال بالخطر الإيراني، سواء بالزعم بإعداد العدّة لحرب إسرائيلية مباشرة ضد إيران والتعامل مع “أدواتها” الفلسطينية في الجنوب واللبنانية في الشمال وفق استنتاجاتها. وعلى هذا تستقيل فلسطين من موقع النقيض للفكرة الإسرائيلية وتتطوّع في جانب منها لتتقدم أداة من ادوات خارج بعيد.
وحين يذهب الرئيس الفلسطيني لطرق بابٍ إسرائيليّ في الليل، فذلك أن الرجل فقَدَ على رأس نظامه السياسي إطلالة فلسطينية عربية إقليمية أممية كانت فلسطين تمتلكها حتى في أقسى مراحل الضعف والهزيمة. فقدت فلسطين قطبيتها وباتت لا تؤثِّر بعدما كانت فعلًا ضاغطًا على سياسات عربية وإقليمية وحتى دولية.
مع تضعضع الموقف الفلسطيني بعد خروج منظمة التحرير من لبنان إثر الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، انتقل مركز القيادة إلى تونس بعيدًا من جغرافيا فلسطين، وتوزّعت القوى العسكرية والإعلامية والسياسية والتنظيمية على عواصم عديدة في المنطقة. خُيّل للمراقب نهاية المشوار الفلسطيني الذي أطلّ منذ الستينات الفائتة. ومع ذلك فإن قدرة القيادة والفصائل على إطلاق انتفاضة في الداخل والاحتفاظ باحتضان الخارج فرضا على إسرائيل استنتاج ما تمثّله فلسطين من رقمٍ صعب أملى قبولها لجوئها إلى اتفاقات أوسلو المُثيرة للجدل.
لم ينفكّ الحراك الفلسطيني قبل أوسلو عن كونه مُتعدّدًا موزّعًا بين فصائل ثبت ولاء بعضها إلى أجندات غير فلسطينية. ومع ذلك بقي الجسم السياسي الفلسطيني قادرًا على إنتاج برامج حدّ أدنى، تحتملُ الخلاف والجدل، في كيفية التعامل مع الواقع الإسرائيلي. وما بين “تحرير فلسطين من النهر إلى البحر”، مرورًا بهدف “إقامة سلطة وطنية على أي أراض تُحرَّر”، إنتهاءً بصفقة أوسلو وما بعدها، بقيت البوصلة الفلسطينية مُتنبّهةً تجرّ كل المنظومة العربية خلفها من دون تحفّظ. حتى أن العرب، وربما عن بلادة، منحوا الفلسطينيين امتياز دعمهم أيًّا كان قرارهم.
ولكن ما هو الشيء الذي يُريدُه الفلسطينيون حتى يستطيع العرب دعمه والعمل على تسويقه، ولو بصعوبة ويأس، لدى المحافل الدولية؟
ما هو برنامج “فتح” وما هو برنامج “حماس” والفصائل الأخرى؟ كيف يُمكن تحويل الأضداد النهائية إلى مشروع مرحلي جامع يُصفق له الفلسطينيون ويتولّى العرب، راضين أو مُرغَمين، تبنّيه واعتماده وترقيته إلى مستوى المشروع العربي الجامع؟
ولئن تدّعي القيادة الفلسطينية (في غزة والضفة الغربية) التفاجؤ من الاتفاقات الجديدة التي أبرمتها دول عربية مع إسرائيل، فما الذي فعلته قيادة فلسطين لإعادة تصحيح وترميم وتمتين علاقة “القضية” بأجندات مصالح العرب المُستَجِدّة؟ ولئن يرفض رئيس وزراء إسرائيل نفتالي بينيت قيام دولة فلسطينية فيما يرى غانتس أن حلّ الدولتين هو الحلّ الأفضل، فما الذي يريده الفلسطينيون وهم منقسمون بين خيارات السلاح والتسوية والسلام، كما خيارات إلغاء أوسلو واللادولة، وخيارات التمسك بحلّ الدولتين أو ربما حلّ الدولة الواحدة؟
لن يكون “الانفجار” الذي حذّر منه أحد قياديي رام الله (حسين الشيخ) في تبرير زيارة عباس لبيني غانتس. فالسلطتان الحاكمتان في رام الله وغزة تملكان مواهب وأد أي حراك شعبي لا يسير وفق إيقاعات النظامين السياسيين. ولئن يقوم الرئيس الفلسطيني بالوصل التقني مع إسرائيل فتخرج الفصائل متحفّظة مستنكرة قبل أن ينتهي الجدل خلال ساعات، فإن إسرائيل تستنج بدون لبس أن فلسطين ما زالت دون مستوى التحدّي، وأن التعامل مع “الأراضي الفلسطينية” في وجهة الضفة الغربية أو في وجهة غزة لا يعدو كونه ملفًّا أمنيًا، هامشيًا، ما زال لا يستحق أكثر من جلسة سمر.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)