بوتين للغرب: إقفِلوا “دُكّانَكم”!
محمّد قوّاص*
يكاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يخوض معركته الأخيرة ضد المنظومة الغربية على حدود أوكرانيا. ويكاد الرجل يطيح بمسلّمة فرانسيس فوكوياما البليدة حول تثاؤبه من “نهاية التاريخ”. يُعيدُ سيّد الكرملين (أو يسعى إلى إعادة) عقارب الساعة إلى اللحظة التي كان فيها شاهدًا مُعذَّبًا على انهيار الاتحاد السوفياتي (1988-1991)، فيدق في أوكرانيا أبواب روسيا القيصرية.
تمددَ ذلك الغرب المُنتَصِر ليضع دول الاتحاد السوفياتي تحت خيمته. بعضها تحت سقف الاتحاد الأوروبي، وبعضُها الآخر داخل فضاء الحلف الأطلسي، وبعضها الثالث يطمح إلى أن يتمتّع يوماً بالنعمتَين. من تلك الدول أوكرانيا، ثاني أكبر دولة أوروبية من حيث المساحة بعد روسيا.
خاض بوتين معركة قديمة ضد “الغزو” الغربي لـ الغنائم” السوفياتية في جورجيا في العام 2008، وخرج منتصراً. وخاضها مرة أخرى في أوكرانيا فانتزع بالقوّة، كما في جورجيا، شبه جزيرة القرم في العام 2014، وخرج منتصراً. فلماذا لا تسوّل له نفسه الانتهاء من الاستعصاء الأوكراني إلى الأبد؟
تُخرِجُ موسكو من خزائنها العتيقة ملفّات التاريخ والثقافة واللغة التي تجمع روسيا بأوكرانيا. يستعير بوتين مقولة حافظ الأسد حين اعتبر أن السوريين واللبنانيين هم شعبٌ واحد في بلدين. ينهل الزعيم الروسي من البضاعة نفسها ويُلقي عظة في الاتجاه عينه فلا يجد ما بين بلاده وأوكرانيا إلّا سمات واحدة في السلام والكلام وحكايات تُشكِّلُ الكِيانَين.
يُقدِّمُ بوتين مُطالعة حاذقة تتقطّر منها مظلومية أين منها تلك التي أطلقها وليّا الفقيه في إيران. قواته تجتاح جورجيا وتجتاح القرم وتحتشد بخشونة على حدود أوكرانيا التي يُستكثَرُ عليها تسوّل الدعم الخجول من هذا الغرب المُرتبك. يودّ الرئيس الروسي استعادة مقعد جوزيف ستالين في يالطا (شباط/فبراير 1945). تقاسم المنتصرون في الحرب العالمية الثانية آنذاك العالم ورسموا حدود نفوذهم عليه، فلماذا لا يرسم بوتين حدوده وينتزع من الخصم اعترافًا نهائيًا بنفوذه؟
قد لا يستطيع بوتين فكّ شيفرة الردّ الغربي على حملته الأوكرانية. واشنطن ولندن تؤكدان بشكل واضح جليّ لا لبس فيه وبالنيابة عن الحلف الغربي أن المنظومة الغربية لن تردّ عسكريًّا على أيّ اجتياح تقوم به روسيا لأوكرانيا. تتوعّد واشنطن وحلفاؤها، وكما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، بـ”عقوبات مُدمّرة” ضد روسيا في حال قامت بهذا الاجتياح. يُردّد الغرب عبارة “اجتياح” وكأنها احتمال من عاديات السوابق الروسية، ما قد يُغري بوتين لانتهاج الخيار من جديد خصوصًا أن الغرب يعِدُه بانعدام أي تدخّل عسكري.
يطرح الحدث تحدّيًا وجوديًا للغرب منظومةً وعقيدةً. انتصر الغرب الليبرالي الديموقراطي على نموذج الحكم الشمولي السوفياتي وبات على المُنتصرين تسويق نموذجهم بصفته الترياق الوحيد لحكم الكون. يعود بوتين بترياقه فارضًا على الاتحاد الروسي والدول الحليفة وتلك التي عليها أن تكون حليفة -مثل أوكرانيا- نموذج حكم يُنهي شططًا أباح لدولٍ مثل بولندا وهنغاريا ورومانيا وتشيكيا .. إلخ الذهاب بعيدًا من موسكو، ويفرض قواعد قوة تمنع على دولةٍ ديموقراطية مُستقلة -مثل أوكرانيا-أن تختار، أيًّا كان شكل ووجهة هذا الخيار.
ولئن يباشر الغرب في العام الجديد في جنيف محادثات (تأخذ شكل المفاوضات) مع روسيا بشأن الضمانات الأمنية التي يطالب بها بوتين الذي يزعم الخوف والرعب من أسلحة استراتيجية غربية تحت شرفته، فإن هذا الغرب بقيادة الولايات المتحدة في عهد الديموقراطي بايدن أمام امتحان صعب مُعقّد. فحسابات الأوروبيين القلقون من سيف الطاقة فوق رقابهم تختلف عن تلك الأميركية التي تُدرج الصراع مع الصين في كل صغيرة وكبيرة على هذا الكوكب.
يتأمل الأوكرانيون بحسرة ذلك التردد الذي لم يعترِ الغرب في دمج دول البلطيق، يتأملون تلك اللحظة التاريخية التي جرى فيها الأمر أمام أعين موسكو بعجز وبدون أي اكتراث. يتأملون أيضًا “وعد” الغرب لبوتين بعدم الرد العسكري على أيّ هجوم عسكري يقوم به ضد بلادهم. يتأمّلون أيضًا وأيضًا، وربما بيأس، بزوغ تسويات خبيثة قد تنضج بين موسكو والغرب على حسابهم ولصالح حلم أميركي بـ”تحييد” موسكو عن ذلك الصراع مع بكين. يحاولون أيضًا فك طلاسم تلك “الإيجابية” التي قال بوتين أن واشنطن أعربت عنها في ردّها على مقترحاته الأمنية.
تقول المُقترحات إنه على الحلف الأطلسي عدم قبول أعضاء جدد في التحالف العسكري وتدعو إلى عدم إنشاء قواعد عسكرية في دول الاتحاد السوفياتي السابق. لا ينقص بوتين إلا أن يقول لخصومه “إقفِلوا دُكّانكم”.
والحال إن الصين تنظر بسادية من بعيد إلى ذلك الضجيج الصاخب على الحدود الروسية-الأوكرانية. بين روسيا والصين يترعرع تحالف الضرورة الذي، ووفق دروس التاريخ، قد تطيح به ضرورات أخرى. تقارن بكين احتمال اجتياح روسيا لأوكرانيا وباحتمال قيامها بالسلوك نفسه ضد تايوان. وعلى هذا فإذا ما وعد الغرب بسكوت المدافع عن اجتياح بوتين لأوكرانيا فلماذا لا يسكت أيضًا عن قيام شي جين بينغ بضمّ تايوان الجزيرة إلى البرّ الصيني العظيم؟
تُدرك واشنطن بحسابات دقيقة حراجة مآلات الصراع الأوكراني على مآلات الصراع المفتوح الأميركي-الصيني. ربما أن بوتين أيضًا يستنتج ذلك الحَرَج ويرى فيه مناسبة نادرة ليُسجّل في حسابه أرباحًا يعترف فيها الغرب بمكانته النهائية وفق “يالطا” جديدة. وإذا ما حصل ذلك فإن الأمر يعني أن الزعيم الروسي يحصد عند بايدن ما تمت زراعته بعناية عند الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
غير أن رجل روسيا القوي، الذي يستعرض قواه على حدود أوكرانيا وقد استعرضها منذ العام 2015 في سوريا ونشر قوات “فاغنر” الخاصة في بقاع كثيرة من العالم، لا ينسى أبدًا أن الاتحاد السوفياتي كان قوة عسكرية جبّارة حين انهارت منظوماته وأن الاقتصاد وحده كان السبب لسقوط الامبراطورية التي تمَّ الوعدُ بأنها لا تُقهَر.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)