تُركِيّا والمَنطقة: التَحَوُّلاتُ الصائبة!

محمّد قوّاص*

من الصعب على الدول المعنية بالعلاقة مع تركيا أن لا تتعامل بإيجابية مع الواجهات الودودة التي تُطلقها أنقرة باتجاه الدوائر المُحيطة، سواء مع أوروبا أو العالم العربي. والثابت أن ظروفاً ضاغطة محلّية وإقليمية ودولية أملت على أنقرة سلوك خيارات جديدة، قد تكون تكتيكية، يُرادُ منها تحسين علاقة البلد بدولِ الجوار، لكن بالإمكان أن تنضجَ وتتطوّر لتصبح استراتيجية نهائية.

والحال أن أنقرة ذهبت في السنوات الأخيرة بعيداً في سياساتٍ اعتبرتها دول الاتحاد الأوروبي كما المنطقة العربية عدائية لا تتّسق مع النسق الذي أرادته تركيا مع العالم إثر وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدّة الحكم. والواضح أن العالم قد استنتج تبدّلاً في الاستراتيجيات الأولى التي اعتمدت على نظرية “تصفير المشاكل” مع دول الجوار التي نظّر لها رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأسبق أحمد داود أوغلو في السنوات الأولى لإطلالة حزب العدالة والتنمية وزعيمه على الحكم في تركيا. وفيما تسعى تركيا هذه الأيام إلى العودة عن سياسات أقلقت دول الجوار وأحدثت صداماً مع كل الدائرة الأوروبية، فإنه مع ذلك يصعب الحديث عن عودة إلى “التصفير” الشهير، وهو أمرٌ لا تدّعيه أنقرة. والأرجح أن تركيا تُعيد التموضع داخل كافة الملفّات مُتَّكئة على واقعية تستنج من حقائقها سبل المتاح والممكن ووقائع المُحرّم والمستحيل.

وفيما تتأمّل دول الجوار الانعطافة التي تروِّج لها أنقرة حول سلوك معابر الحوار وسُبُل التهدئة، فإنه يسهل على المراقب استنتاج أن تلك التحوّلات ليست بالضرورة نتاج مراجعة حقيقية تطال الأساس الإيديولوجي الذي يقوم عليه النظام السياسي في تركيا الحالية، بل تأتي على قاعدة تراجع عن سلسلة من ملفات جرى التعويل عليها، سواء في رعاية الإسلام السياسي والتلميح بها بديلاً حصرياً من النظام السياسي العربي، أو في ارتباك في المناورة واللعب بين انتماء البلد الأطلسي من جهة والوعد بعلاقات واعدة وربما بديلة مع روسيا والصين والخيار الشرقي من جهة أخرى

أظهرت دول الاتحاد الأوروبي تضامناً صلباً ضد السياسة التركية في حوض شرق المتوسط، وراح بعضها (لا سيما فرنسا) إلى تقديم الدعم العسكري الرادع إلى اليونان وقبرص. لا بل أن تشكّل تحالف بين الدولتين الأخيرتين مع مصر (ودول أخرى) في صيانة وتدبير سوق الطاقة في المنطقة، قاد إلى شلل المقاربة التركية وعجزها عن تقديم وجبات قانونية سياسية عسكرية، مُقنِعة على نحو حشر الاداء التركي بسياسة سفينة التنقيب ذات الطابع التحرّشي وليس الاستراتيجي الوازن.

والحال أن تركيا فقدت توازناً في أبجديات السياسة الدولية حين ساءت علاقاتها مع حليف استراتيجي كالولايات المتحدة، وذهبت بعيدا في شرائها لمنظومة صواريخ S-400 الروسية المُناقضة تماماً، في المبدأ، لروحية الحلف الأطلسي العقائدية، وفي الأمن، لمنطق الانتماء لهذا الحلف من حيث اتساق وتناغم منظومات السلاح والأمن. بالمقابل، لا تَعِدُ علاقة أنقرة مع موسكو ببديل يمكن التعويل عليه، ولا بأي مصداقية يمكنها إخافة الأطلسيين، ناهيك من أن روسيا لا ترى في التقرّب التركي منها إلّا تدلّلا يُراد منه ابتكار مقاربة أخرى مع واشنطن والحلف الغربي وتحسين شراكة أنقرة معهما. وبغض النظر عن رفض أنقرة لتقيم موسكو لطبيعة التحالف الذي أقامته تركيا مع روسيا، فإنها تستنتج عمق تناقض مصالح البلدين والتي تصل أحياناً إلى شفير الصدام العسكري في سوريا.

وعلى الرغم من قيام أنقرة بخطوات لافتة عمدت إلى إسكات المنابر المعادية التي كانت تنطلق من الأراضي التركية ضد مصر، وعلى الرغم من حملة علاقات ودودة قامت بها الديبلوماسية التركية تجاه دول الخليج، إلّا أن الأداء ما زال في مراحل شكلية أولى قد لا تقنع الدول المعنية بنهائية هذا التحوّل. صحيح أن أُطُرَ الحوار بين تركيا ودول الخليج تتطوّر باضطراد، غير أن موقف أنقرة في ليبيا، كما رمادية موقفها في سوريا والعراق وماكيافيلية علاقاتها مع إيران، يدفع إلى طرح أسئلة حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه تركيا في تطبيع علاقاتها مع المنطقة وتدبير ملفات خلاف ساخنة مع دولها.

ولا ريب أن الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعاني منها تركيا، في بُعدِها الذاتي وذلك المتأثّر بالجائحة، تفرض تحديات داهمة وتضعف من إمكانات أنقرة على تأمين الوفورات السابقة لتمويل سياسات سابقة اعتبرتها دول المنطقة سلبية، خصوصاً لجهة اعتماد الإسلاموية منهجاً للتعامل مع المنطقة. يُضافُ إلى ذلك الواقع المتدهور الذي وصلت إليه التيارات والجماعات التابعة للإسلام السياسي، ما يدفع أنقرة هذه الأيام إلى إظهار أخذ مسافة من هذا المشروع الإيديولجي الذي عوّلت تركيا عليه كثيراً وجعلته مدخلها الوحيد إلى العالم العربي. ومع ذلك فإنه يسهل على المراقب استنتاج أن الأمر لا يعدو كونه إسدال ستار -قد يكون مؤقتاً- على هذا المشروع، وليس قطيعة نهائية معه، على نحوٍ قد يُبقيه مادة خلاف مقلقة ما زالت حاضرة على طاولات الحوار.

وقد يكون منطقياً أن تحتاج تركيا إلى مزيد من الوقت لتظهير تحوّلاتها، لا سيما أن بعضها يقفز من النقيض إلى النقيض. فإذا ما كانت أنقرة تخضع للواقعية السياسية وشروطها الموجعة، فإن دول الجوار مَعنية بقراءة هذه التحوّلات وتفحّص جدّيتها ونجاعتها والدفع بما يمكن لأنقرة أن تتشجع وتجعلها استراتيجية نهائية.

ولئن تترواح سياسة أنقرة في البحر المتوسط هذه الأيام بين ضفّة التصريحات النارية (المفهومة في مقاصدها الداخلية) ونصوص ديبلوماسية الحوار (التي يستسيغها الأوروبيون)، فإن موقف أنقرة من المسألة الليبية (وتحفّظها عن مخرجات مؤتمر باريس الأخير لجهة انسحاب المرتزقة والقوات الأجنبية) ما زال يُشكّل عثرة يجب إزالتها لتسييل السياسة الخارجية الجديدة التي تسعى تركيا إلى الدفع بها. ذلك أن ليبيا هي مسألة أمن استراتيجي بالنسبة إلى مصر، لكنها بالمقابل مقياس الواقعية والموضوعية واحترام المصالح الذي تراه دول الخليج أساساً حتمياً لبناء علاقات سوية ومتوازنة دائمة مُتخلّصة من عيوبها التجريبية.

والحال أن ضريبة الجغرافيا والتاريخ تجعل من تركيا واقعاً جيوستراتيجياً وجب العمل على تعزيز التعامل معه. تجد دول المنطقة في التحوّلات التركية فرصة حقيقية لدعم مصالح مشتركة في السياسة والاقتصاد والأمن. وفي موسم ما يروّج عن صراعِ أممٍ كبرى يأخذ ذلك الأميركي-الصيني واجهته الأساسية، فإن لتركيا مصلحة حقيقية في أن تجد في المنطقة الأمان والاستقرار اللذين قد تفتقدهما في عالم تتشكّل داخله منظومة دولية مجهولة المستقبل.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: (@mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى