هل تقع مصر ضحيةً للحربِ في غزة؟

إنَّ المخاطرَ التي يفرضها تصاعدُ القتال بين إسرائيل و”حماس” في غزة على استقرار مصر تُشكّلُ أيضًا مؤشّرًا إلى الكيفية التي أصبحت بها الأزمات في الشرق الأوسط وما حوله مترابطة إلى حدٍّ كبير.

القصف الإسرائيلي لغزة قد يولد أزمة نزوح إلى سيناء وإنعاش القوى الإسلامية في مصر.

ألكسندر كلاركسون*

كان الهجومُ الذي شنّته حركة “حماس” وفصائل فلسطينية مسلّحة أخرى من غزة على جنوب إسرائيل في نهاية الأسبوع الفائت بمثابة صدمةٍ أُخرى للنظام العالمي الهشّ. وحتى عندما استعادت القوات الإسرائيلية الأراضي التي خسرتها واكتشفت جرائم مروعة ارتُكِبت ضد المدنيين الإسرائيليين، شنّت غاراتٍ جوية على أهدافٍ في غزة، والتي شعر بأثرها الوحشي المدنيون الفلسطينيون بشكلٍ رئيس. على الرُغم من أن دورات التصعيد السابقة في الأعوام 2008 و2012 و2014 و2021 أدّت إلى وقوعِ إصاباتٍ –بعضها في إسرائيل، ولكن الغالبية الساحقة بين الفلسطينيين– فمن المُرَجّح أن يكونَ، للحَجمِ الهائل لهجوم “حماس” والهجوم المضاد الإسرائيلي الوشيك ردًا عليه، تأثيرٌ عالمي أكثر دراماتيكية.

في الساعات والأيام الأولى للمجزرة التي وقعت في جنوب إسرائيل وغزة، كان معظم التركيز مُنصَبًّا على التطورات في ساحة المعركة. لكن العديد من الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي –والتي أدّت خلال العام الماضي إلى احتجاجاتٍ جماهيرية من قبل الليبراليين الإسرائيليين ضد الحكومة التي تُهيمن عليها الأحزاب القومية اليمينية المتطرفة والأحزاب الدينية المتطرفة– عادت إلى الظهور بسرعة. إن التأييدَ الواسع النطاق لهجومٍ برّي عقابي على غزة لسحق “حماس” من شأنه أن يؤدّي إلى خلق درجة من الوحدة، على الأقل مؤقتًا (حيث تشكّلت حكومة وحدة وطنية لإدارة الحرب). لكن الجدل الدائر حول مدى تأثير أجندة حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة والضغوط التي ولّدتها حركة الاحتجاج -والتي امتدت إلى قطاع الأمن الإسرائيلي- على تماسك أجهزة المخابرات والجيش الإسرائيلي، من المرجح أن يكون مصدرًا إضافيًا للاستقطاب المرير.

وبينما ستكافح “حماس” والثيوقراطية الاستبدادية التي بنتها في غزة من أجل النجاة من الهجوم الإسرائيلي، فإن الفلسطينيين في غزة الذين يدعمون الفصائل الأخرى أو يريدون فقط مواصلة حياتهم سيواجهون المزيد من المعاناة وسط ردٍّ عسكري من غير المرجح أن يتمَّ كبح جماحه من قبل أيٍّ من حلفاء إسرائيل. إن احتمالَ حدوث المزيد من التطرّف في الحوار السياسي الإسرائيلي في وقت حيث تتواجد الأحزاب التي تؤيد الترحيل الجماعي للفلسطينيين في الحكومة، من شأنه أيضًا أن يؤدي إلى تمرّد في الضفة الغربية، حيث انهارت سلطة السلطة الفلسطينية. وفي مواجهة مثل هذا السياق الاجتماعي القاتم، فمن الصعب أن نتخيل كيف يمكن لكلا المجتمعَين الهروب من دورات التطرف التي وقعا فيها.

علاوة على ذلك، فإنَّ حالة عدم اليقين الناجمة عن هذه الحرب لديها القدرة على تأجيج المزيد من الصراع في جميع أنحاء الشرق الأوسط، حتى لو أرادت الجهات الفاعلة الرئيسة تجنّب مثل هذه النتائج. وعلى وجه الخصوص، هناك خطرٌ كبير في أن تمتدَّ الحرب لتشمل “حزب الله” في جنوب لبنان، وهو الأمر الذي قد يكون خارج نطاق السيطرة بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي الذي يُعِدُّ لهجومٍ ضخم ضد غزة ويكافح من أجل الحفاظ على قبضته على الضفة الغربية. وفي الوقت نفسه، سعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أيضًا إلى ردع إيران ووكلائها من الاستفادة من الصعوبات التي تواجهها إسرائيل، بينما تأمل في تجنّب توريط الولايات المتحدة في حربٍ أخرى. وعلى الرُغم من أن الفوضى الناجمة عن هجوم “حماس” على إسرائيل كانت مفيدة للغاية لجهود إيران لإعادة تشكيل المنطقة لصالحها، فإن طهران لا تسعى بالضرورة إلى مواجهةٍ عسكرية مباشرة مع أميركا، الأمر الذي قد يقلب النظام الاجتماعي الهشّ أصلًا في إيران.

ومهما يكن فإنَّ كل هذه العوامل قد تشجع على بعض ضبط النفس، فإذا أصبحت الحرب في غزة بمثابة جهد طويل الأمد للجيش الإسرائيلي، فإن مزيجًا من انتهازية “حزب الله” والغطرسة الإيرانية والذعر الإسرائيلي يمكن أن يؤدي إلى تصعيدٍ في جنوب لبنان. ومع حدوث تبادل متقطع لإطلاق النار على الحدود اللبنانية، فإن أيَّ خطَإٍ في التقدير من جانب أيٍّ من الجانبين قد يؤدي إلى قتال من شأنه أن يضع الجيش الإسرائيلي تحت ضغوط هائلة ويُدمِّر لبنان. وفي وقت حيث بدأت أعداد اللاجئين اللبنانيين والسوريين الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا في الارتفاع مرة أخرى بالفعل، فإن أيَّ قتال بين إسرائيل و”حزب الله” يمكن أن يولّد بسرعة معضلاتٍ استراتيجية لكلِّ دولة أخرى حول شرق البحر الأبيض المتوسط.

إن النشرَ السريع لحاملتَي طائرات أميركيتين (جيرالد فورد وإيزنهاور) والمجموعة التي ترافقهما في المنطقة إلى جانب ديبلوماسية الاتحاد الأوروبي وتركيا لمنع مثل هذا التصعيد هو مؤشّرٌ إلى أن احتمال انتشار هذه الحرب إلى لبنان أمرٌ مفهوم جيدًا من قبل الجهات الخارجية. وعلى النقيض من ذلك، هناك نقصٌ مُثيرٌ للقلق في اهتمام المناقشات السياسية والإعلامية الأوروبية والأميركية بتأثير الحرب في غزة على مصر. حتى في الوقت الذي يجد العديد من سكان غزة طريقهم إلى معبر رفح الحدودي إلى مصر هربًا من الهجوم الإسرائيلي المقبل، وبينما تشير القيادة المصرية، بدءًا من الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى أسفل هرم الحكم، بشكلٍ محموم إلى قلقها بشأن التصرفات الإسرائيلية، فإن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين والهند كانت بطيئة في التعامل مع مدى عمق مخاطر زعزعة الاستقرار في مصر.

إن هذا الافتقار إلى التركيز على البُعدِ الرئيس لهذا الصراع يصبح أكثر إثارةً للقلق إذا أخذنا في الاعتبار مدى تعدد أوجه المخاطر التي تواجه مصر. هناك الآن احتمالٌ كبير بأن تؤدي الحرب في غزة إلى إغراق منطقة شمال سيناء المجاورة في حالةٍ من الفوضى. إن السرعة التي يمكن أن ينتشر بها عدم الاستقرار هذا إلى بقية مصر يمكن أن تدفع المجتمع الذي يواجه أزمة اقتصادية وسخطًا عامًا من النظام الاستبدادي إلى ثورة مفتوحة وشلل الدولة.

يعتمد مدى وسرعة التداعيات التي يمكن أن تؤدي إلى إشعالِ العنف في شمال سيناء على مُتغيّراتٍ يصعبُ التحقّق منها حاليًا. وتشمل هذه ردودَ فعلٍ محلّية على المحاولات الإضافية التي يقوم بها الجيش المصري لإغلاق البنية التحتية للتهريب التابعة ل”حماس”، والتي توفّر أيضًا مصادر دخل مربحة للسكان المحليين ذوي العلاقات الجيدة مع المنظة الفلسطينية، وعلى قدرة الجماعات المتمردة -سواء المحلية أو الجهادية- على التجدّد بعد الهجمات في القطاع في أواخر العقد الفائت التي أضعفتها لكنها لم تَقضِ عليها. إذا أظهر نظام السيسي المستوى نفسه من عدم الكفاءة تجاه تداعيات حرب غزة في سيناء كما فعل عندما يتعلق الأمر بالإدارة الاقتصادية، فإن انهيارَ النظام في المنطقة يمكن أن يعرّض مرة أخرى المنتجعات السياحية القريبة على البحر الأحمر للخطر أو بل وحتى نشر انعدام الأمن نحو منطقة قناة السويس، التي تشكل أهمية بالغة للاقتصاد العالمي.

إنَّ الاضطرابات في سيناء والتي تنطوي على ارتفاعِ أعدادِ اللاجئين وتَجَدُّدِ التمرّد الإقليمي لن تُشكّلَ مشكلةً بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي فحسب، الذي يناضل بالفعل لإدارة الأمن حول حدوده. إن تأثيرَ انتشار العنف المسلّح إلى الخارج وتدفقات اللاجئين على التجارة التي تمرّ عبر قناة السويس سيكون له تأثير فوري على الدول التي تعتمد بشكلٍ كبير على هذه الطرق التجارية، مثل الصين والهند والمملكة العربية السعودية. وبالنسبة إلى السعوديين على وجه الخصوص، فإن انتشارَ العنف حول سيناء وشمال البحر الأحمر من شأنه أن يُقوّضَ التواصل الإقليمي ومشاريع التنمية الاقتصادية التي تربط الدول المختلفة في المنطقة والتي كان المقصود منها توفير الأسس الاقتصادية لمزيدٍ من الاستقرار الجيوسياسي.

إن حالة الاقتصاد المصري هشّة للغاية، كما إنَّ الإحباطَ من عدم كفاءة نظام السيسي مُنتَشِرٌ على نطاق واسع لدرجة أنه من غير المرجح أن يظل هذا الاضطراب محصورًا في سيناء. وفي مواجهة الاقتتال الداخلي العنيف بين الفصائل المهيمنة في شرق ليبيا والحرب الأهلية المستمرة في السودان، فإنَّ تجدّدَ العنف في سيناء من شأنه أن يضعَ مصر في مواجهة ضغوطٍ شديدة على كلٍّ من حدودها البرية. وفي ظلِّ الضغوط الجيوسياسية والاجتماعية والاقتصادية، يصبح السيناريو الذي يَسقُط فيه نظام السيسي في حالة من الشلل والانهيار الداخلي، وتنهار معه الدولة المصرية، أمرًا معقولًا بشكلٍ مثير للقلق. وفي هذه العملية، فإن تلك القوى الخارجية التي تعتمد على الاستقرار المصري للوصول إلى طرق التجارة، والسيطرة على تدفقات الهجرة والظروف اللازمة لمواصلة الاتصال الإقليمي، ستجد نفسها تكافح من أجل إدارة حالة طوارئ إقليمية ضخمة.

إنَّ المخاطرَ التي يفرضها تصاعدُ القتال بين إسرائيل و”حماس” في غزة على استقرار مصر تُشكّلُ أيضًا مؤشّرًا إلى الكيفية التي أصبحت بها الأزمات في الشرق الأوسط وما حوله مترابطة إلى حدٍّ كبير بحيث لا تستطيع أي دولة بمفردها أن تتمتّع بالنفوذ اللازم لحلِّ الصراعات بمفردها. وحتى الولايات المتحدة، بجيشها الضخم، لم تعد تتمتع بالنفوذ والثقة لدى ما يكفي من الجهات الفاعلة في المنطقة للضغط بنجاح على الجهات الفاعلة في الصراع على الأرض من أجل وقف التصعيد بشكلٍ مستدام. على الرُغم من أنَّ الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء يقدّمان المساعدات والتمويل للمؤسسات الفلسطينية وغيرها من المؤسسات الإقليمية ويحافظان على وجودٍ عسكري في الخليج، إلّا أن الموروثات السامة للهيمنة الإمبريالية السابقة والاستعداد المحدود للضغط على إسرائيل أعاقت جهود بروكسل للعمل كوسيط. وبينما تكافح الصين لتحويل العلاقات الجيدة مع إيران والدول الأخرى المعادية للولايات المتحدة إلى دور ديبلوماسي أوسع، فإن الحكومة الهندية التي أصبحت مؤيدة لإسرائيل بشكل متزايد مع تعميق العلاقات مع دول الخليج لا تزال تكافح من أجل تطوير استراتيجية متماسكة لسياساتها الخاصة للمنطقة.

فقط إذا وَجَدَ ما يمكن تسميته بالأربعة الكبار في النظام الأمني العالمي طريقةً للعمل معًا لتعظيم نقاط قوتهم الديبلوماسية وموازنة نقاط ضعف بعضهم البعض، فيمكن تحقيق مستوى من التنسيق الخارجي يكون قادرًا على التوسط بفعالية بين القوى الإقليمية مثل إسرائيل، والمملكة العربية السعودية وإيران، أو إنقاذ الدول الضعيفة مثل مصر ولبنان من الانهيار. وفقط من خلال هذا النوع من التعاون بين الدول الأربع الكبرى، أي الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي والهند، يمكن بناء مستوى من الضغط تجاه إسرائيل وإيران والجهات الفاعلة المحلية الأخرى لقبول تسوية تمكّن الفلسطينيين من السعي إلى تحقيق مستقبل أكثر سلمًا وازدهارًا.

إنَّ ديناميكيات التصعيد التي تتكشّف الآن بين الإسرائيليين والفلسطينيين تولّد مخاطر على الاستقرار تؤثّر في المصالح الأساسية لكلٍّ من هذه القوى العالمية الأربع. إن العملية التي يمكنها من خلالها العمل مع دول المنطقة لبناءِ نظامٍ أكثر استقرارًا في الشرق الأوسط يمكن أن توفر أيضًا مساحة لعلاقات مؤسّسية أعمق في ما بينها والتي قد تساعد على نزع فتيل بؤر التوتر الجيوسياسية الأخرى. ومع ذلك، إذا وجدت الدول الأربع الكبرى نفسها غير قادرة على التغلب على انعدام الثقة الذي يقف في طريق مثل هذا التعاون، فمن المرجح أن تجد نفسها بسرعة في مواجهة أزماتٍ عالمية أكثر استعصاءً على الحلّ من الحرب في غزة.

  • ألكسندر كلاركسون هو أستاذٌ محاضر في الدراسات الأوروبية في جامعة كينغز كوليدج في لندن. يستكشف بحثه تأثير مجتمعات الشتات العابرة للحدود الوطنية على سياسات ألمانيا وأوروبا بعد العام 1945، وكذلك كيف أثرت عسكرة نظام حدود الاتحاد الأوروبي على علاقاته مع الدول المجاورة.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى