إنقلابُ السودان يَستَحضِرُ أشباحَ الماضي الدموي

أسامة الشريف*

منذ البداية كان زواجاً غير مريح، ومن المدهش أنه استمر كل هذه الفترة. إستيقظ الشعبُ السوداني يوم الاثنين الفائت ليجد أن الجيش قد اعتقل شخصيات مدنية بارزة، بمن فيهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وأعضاء حكومته، وكذلك ممثلين عن الفصيل المدني في مجلس السيادة، أعلى هيئة حكم، والتي يرأسها الفريق أول عبد الفتاح البرهان. تلا ذلك ساعات من الارتباك حيث خرج الآلاف من سكان الخرطوم إلى الشوارع للتنديد بما لا يمكن اعتباره سوى انقلاب عسكري وانتهاك صارخ للميثاق الدستوري لعام 2019 الذي اتفق عليه المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير.

وقوى الحرية والتغيير هي تحالفٌ من الحركات والأحزاب السياسية وائتلافٍ لقوى المتمرّدين. تم تشكيلها في أعقاب احتجاجات كانون الأول (ديسمبر) 2018 التي بلغت ذروتها بإسقاط الرئيس عمر البشير بعد بضعة أشهر.

دعا الميثاق الدستوري إلى فترةٍ انتقالية لتقاسم السلطة مدتها ثلاث سنوات حتى إجراء الانتخابات وإرساء الحكم المدني. وبموجب هذا الميثاق، تم تشكيل حكومة انتقالية مدنية بقيادة حمدوك في العام 2019. كما أُنشِئت لجنة إزالة التمكين لتفكيك نظام البشير السابق وإعادة هيكلة أجهزته الأمنية وجميع مؤسساته.

صيغة تقاسم السلطة التي توصّل إليها العسكر والفصيل المدني كانت مدعومة من الغرب، وفي المقام الأول من الولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية وغيرها. ولكن بعد ستة عقود سادها في غالبيتها الحكم العسكري، مع استثناءات نادرة، كان هناك دائماً خطرٌ أن يجد الجيش، بما في ذلك الميليشيات شبه العسكرية “قوات الدعم السريع”، طُرُقاً لعرقلةِ التحوّل الديموقراطي وإنهاء الشراكة الهشّة والمُهتَزّة.

وهذا بالضبط ما حدث يوم الاثنين في 25 تشرين الأول (أكتوبر). بعد ساعاتٍ من الفوضى والاضطراب في الخرطوم، حيث قطع الجيش خدمات الإنترنت والهاتف وأقام حواجز على طول الجسور والتقاطعات الرئيسة، ظهر البرهان على شاشة التلفزيون الوطني للتأكيد على الواقع الجديد. دون قول ذلك، كانت قرارات المجلس العسكري بمثابة انقلاب شامل، حيث تضمّنت إعلان حالة الطوارئ الوطنية وحلّ مجلس السيادة ومجلس الوزراء ولجنة إزالة التمكين، مع تعليق المواد الأساسية في الميثاق الدستوري، وكلّها تتعلّق باتفاقية تقاسم السلطة ودور الفصيل المدني. كما أقال المجلس العسكري المحافظين ووكلاء الوزارات، مع التزامه بالانتقال الديموقراطي وإقامة محكمة دستورية.

وأدان كلٌّ من الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي الانقلاب واعتقال شخصيات مدنية بارزة، وهددا بقطع المساعدات، بينما أعربت جامعة الدول العربية والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي عن قلقها. البرهان، الذي تعهد بتشكيل حكومة شاملة من الوزراء المؤهّلين، تعهّد أيضاً باحترام اتفاقية السلام السودانية (اتفاقية جوبا)، التي أنهت الحرب مع جنوب السودان والصراعات في دارفور وشرق السودان، في آب (أغسطس) 2020 وباحترام مظالم أهل شرق السودان.

حدثان سرّعا بشكلٍ مُباشرٍ من قرار المجلس العسكري بتنظيم الانقلاب. الأول تمثّل بحالة العصيان التي نفّذها زعماء القبائل في شرق السودان، الذين قطعوا الطريق السريع الرئيس المؤدي إلى الخرطوم وأغلقوا ميناء بورتسودان المهم استراتيجياً وميناء تصدير النفط، ما أدّى إلى تفاقم الظروف الاقتصادية القاسية في جميع أنحاء البلاد. وكانت الحكومة حذّرت في الأشهر الأخيرة من نفاد القمح والأدوية الأساسية والوقود. وكان زعماء القبائل في شرق السودان طالبوا بإقالة الحكومة الانتقالية لفشلها في الالتزام باتفاق السلام السوداني في ما يتعلق بإنهاء تهميش شرق السودان، وهو أحد أغنى الأقاليم بالمعادن ولكنه أيضاً من أفقرها.

الحدث الثاني كان يوم الخميس في 21 تشرين الأول (أكتوبر) عندما نزل آلاف السودانيين إلى الشوارع مُطالبين بحكم مدني إحياءً لثورة تشرين الأول (أكتوبر) 1964. ولاحظ الجيش تزايد الانقسامات داخل قوى الحرية والتغيير حيث بدأت فصائل مختلفة تتنافس في ما بينها على السيطرة والسلطة. ويُلقي السياسيون باللوم على الجيش لعدم احترام جانبه من الصفقة في ضمان الأمن والسلام  في البلاد، فيما أشار الجيش إلى فشل الحكومة في كبح جماح التضخّم والبطالة.

في جميع الأحوال، الفصل التالي من التاريخ المضطرب لهذا البلد غير مؤكّد وهو مفتوح على كل الخيارات، بما فيها الحرب الأهلية وحتى محاولات التنازل، بخاصة في شرق السودان. وهذه أنباء سيّئة لدول الجوار ومنها مصر التي تحتاج إلى سودانٍ مُستَقر حيث تضغط على إثيوبيا للتوصل إلى تسوية بشأن ملء “سد النهضة” المُثير للجدل في ذلك البلد.

منذ استقلال السودان في العام 1956، أدّت الانقسامات القبلية والعنصرية والإيديولوجية والدينية المُعقّدة في البلاد إلى تأجيج عدد من الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية. في العام 1985 وبعد الاحتجاجات العمالية ضد الحكم الاستبدادي لجعفر النميري، نفّذ الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب انقلاباً عسكرياً، حيث وعد بتسليم الحكم إلى حكومة مدنية في غضون عام واحد بعد إجراء الانتخابات، وهو ما فعله بالضبط. كان هذا هو الاستثناء، والسؤال هو هل يمكن الوثوق بالمجلس العسكري لفعل الشيء نفسه في تموز (يوليو) 2023؟

  • أسامة الشريف هو صحافي ومٌحلّل سياسي مُقيم في عمّان، الأردن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @OsamaAlSharif3

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى