أردوغان يَتَطلع إلى موطئ قدم في البلقان

رُغم انخراطه في مشاكل الجوار، يبدو أن الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان يتطلع إلى مغامرة جديدة في البلقان، وبالتحديد في كوسوفو بحثاً عن موطئ قدم.

الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش: لن نقف مكتوفي الأيدي

 

فوك فوكسانوفيتش ونيكولاوس تزيفاكيس*

قبل زيارة شمال قبرص التي تحتلّها تركيا في أواخر تموز (يوليو) الفائت، فاجأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صربيا بتصريحٍ غير سار. فقد أعلن أن تركيا ستضغط لزيادة عدد الدول التي تعترف بكوسوفو المستقلة. قال أردوغان في 19 تموز (يوليو”: “الآن تعترف 114 دولة بكوسوفو، ونُريد زيادة هذا العدد. نأمل أن يكون هذا العام في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في الاجتماع الذي سأعقده مع الرئيس الأميركي جو بايدن، حيث سنُناقش هذا الموضوع مرة أخرى، وسنعمل معاً على الاعتراف بكوسوفو”. وردّ الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش: “تركيا قوة عظمى، وأردوغان عظيم، وأنا صغيرٌ ومُتواضعٌ، لكن صربيا ليست صغيرة جداً لدرجة أنها لن تحاول الوقوف في وجه ذلك”.

من الواضح أن أردوغان لم يكن يُدلي بكلامٍ للإستهلاك فقط. فقد حضر وزير دفاع كوسوفو، أرميند مهاج، أخيراً مأدبة عشاء نظّمها واستضافها وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، إلى جانب نظرائه من أوكرانيا وجورجيا وأذربيجان وليبيا. وحثّ مهاج أوكرانيا وجورجيا وأذربيجان على الاعتراف بكوسوفو. كانت المناورات الديبلوماسية الأخيرة لتركيا في البلقان مدفوعة جزئياً باستيائها من بعض السياسات الصربية الأخيرة، حيث رأى أردوغان فرصةً لزيادة نفوذه في البلقان، لكنها مدفوعة أيضاً بالاعتبارات الجيوسياسية الأوسع للبلاد في ما يتعلق بعلاقاتها مع الولايات المتحدة وسياسة أنقرة تجاه قبرص.

توتّر في العلاقات التركية الصربية

على الرغم من أن العلاقة بين صربيا وتركيا قد وصلت إلى مستوياتٍ غير مسبوقة من التعاون في السنوات الأخيرة، إلّا أن بعض السياسات الصربية خلال العام الفائت كانت بالتأكيد غير مُرضية لأردوغان. خلال التصعيد الأخير في الصراع بين أرمينيا وحليفة تركيا الوثيقة أذربيجان، سلمت صربيا ذخيرة وقذائف هاون وذخائر من العيار الثقيل إلى أرمينيا. ربّما يكون الانخراط الصربي مع خصوم تركيا في الشرق الأوسط قد أزعج أنقرة أيضاً. في ظلِّ وساطة الولايات المتحدة آنذاك، اتفق الرئيس دونالد ترامب وصربيا وكوسوفو في العام 2020 على فتح سفارات في القدس. بعد ذلك، سافر الرئيس الصربي فوتشيتش إلى اسطنبول لإصلاح العلاقات مع أردوغان. كما أصبح من الصعب بشكلٍ متزايد على صربيا أن تُوازن علاقتها بتركيا مع خصم تركيا، الإمارات العربية المتحدة. في الواقع، بينما يتمتّع محمد دحلان – رئيس المخابرات الفلسطيني السابق في غزة والذي عمل كوسيط للشراكة الإماراتية-الصربية – بمعاملة خاصة بكبار الشخصيات في صربيا، فهو مطلوبٌ في تركيا لتورّطه المزعوم في الانقلاب الفاشل في تموز (يوليو) 2016. وفي حزيران (يونيو) منحت جامعة بلغراد الدكتوراه الفخرية لرئيس مصر، عبد الفتاح السيسي، لمساهمته في الأمن الإقليمي والعالمي. على الرغم من أن تركيا تسعى راهناً إلى إصلاح العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة ومصر، إلّا أن إنفتاح صربيا على الأنظمة العربية التي كانت لها علاقات سيئة أخيراً مع تركيا أغضبت أردوغان.

القشّة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة إلى الزعيم التركي كان التعاون الدفاعي الصربي مع قبرص، رُغم أن هذا الدعم في حدّ ذاته لا يُمكن أن يُغيّر التوازن العسكري في شرق البحر المتوسط. قبل عامين، إشترت قبرص 24 مدفع هاوتزر من طراز “بي-52 نورا” (B-52 Nora) وثماني مركبات قتالية مُدرّعة مُتعدّدة الأغراض من طراز “ميلوس 4×4” (Miloš 4×4) من صربيا، واستعرضت نيقوسيا هذه الأسلحة خلال ذكرى استقلال قبرص في العام 2019. والمحادثات حول مشتريات أسلحة إضافية جارية، وصربيا مهتمة بشراء 11 مروحية هجومية من طراز “أم آي-35 بي” (Mi-35P) من قبرص. وفوق كل هذا، في جنوب غرب صربيا، في إقليم السنجق الذي يقطنه مسلمو البوشناق (البوسنة)، حيث يحظى أردوغان بالإعجاب كنجم موسيقى الروك، هناك فصيلٌ سياسي وديني بقيادة المفتي السابق معمر زوكورليتش، أحد أشد المنتقدين لتركيا، تزداد شعبيته حالياً.  زوكورليتش هو أقرب بكثير إلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج، ويعمل بدعمٍ مباشر من الحكومة في بلغراد. حقيقة أن العلاقات بين أنقرة وبلغراد لم تعد خالية من المشاكل ظهرت إلى العلن خلال جولة أردوغان الأخيرة في البلقان. لقد زار الرئيس التركي البوسنة والجبل الأسود (مونتينيغرو)، لكنه تجاوز صربيا على الرغم من إصراره التقليدي على أهميتها الاستراتيجية في المنطقة.

تغيير الديناميكيات الإقليمية

السياقُ الإقليمي مُهِمّ. بسبب مطاردة أردوغان لأتباع عدوّه اللدود، رجل الدين التركي المنفي فتح الله غولن، كان هناك عدم ارتياح في علاقات تركيا مع كلٍّ من ألبانيا وكوسوفو في السنوات القليلة الماضية على الرغم من الواجهة السياسية الدافئة. شهدت هذه الفترة أيضاً انتعاشاً في العلاقات الصربية-التركية، بدءاً من زيارة أردوغان التاريخية إلى صربيا في العام 2017. في غضون ذلك، تم استبدال الطبقة السياسية الألبانية القديمة في كوسوفو بحكومة ألبين كورتي الجديدة. مع الابتعاد عن السياسة الكوسوفية – بسبب لائحة اتهامه بارتكاب جرائم حرب – لرئيس كوسوفو السابق والصديق الشخصي لأردوغان هاشم تاتشي، يحتاج الرئيس التركي إلى إعادة تثبيت نفوذ أنقرة السياسي بين ألبان كوسوفو. يُدرك أردوغان أيضاً أن محادثات التطبيع التي يُيَسِّرُها الاتحاد الأوروبي بين صربيا وكوسوفو لا تؤتي ثمارها، الأمر الذي يخلق فرصة لمبادرات جديدة.

كجزءٍ من صفقة 2020 التي توسّط فيها ترامب، وافقت صربيا على تعليق حملتها الديبلوماسية لمدة عام واحد لإقناع الدول الأخرى بإلغاء اعترافها بكوسوفو، بينما وافقت كوسوفو على فعل الشيء نفسه في ما يتعلق بحملتها للانضمام إلى المؤسسات الدولية. ينتهي هذا الوقف في بداية أيلول (سبتمبر). على الرغم من أن تركيا لم تتوقّف أبداً عن كونها من المؤيدين الرئيسيين لقيام دولة كوسوفو، إلّا أن جهودها اليدبلوماسية قد خفّت منذ أن تم توحيد معسكرات الاعتراف/عدم الاعتراف في الأمم المتحدة بشكل أو بآخر. ومع ذلك، فإن انتهاء فترة التجميد، إلى جانب تشكيل حكومة جديدة في كوسوفو والفشل المستمر للمحادثات التي يُيَسِّرُها الاتحاد الأوروبي، تُحفّزُ أنقرة على اتخاذ خطوة من خلال الضغط من أجل مزيد من الاعتراف الدولي بكوسوفو. وبذلك، يُمكن لتركيا زيادة تأثيرها بين الألبان ونفوذها مع الصرب، مما يضع أردوغان في دور المُوازِن الديبلوماسي بين مجموعتين من أكبر المجموعات العرقية في غرب البلقان، الصرب والألبان.

بناء أجندة تعاونية مع واشنطن

لم يذكر أردوغان فقط أنه ينوي شنّ حملةٍ جديدة لزيادة عدد الدول التي تعترف بدولة كوسوفو، فقد أضاف أنه سيتحدث عن الأمر مع بايدن، خلال اجتماعهما المقبل على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حتى يتمكّن البلدان من “تنفيذ عمل مشترك” لدفع القضية المشتركة. ربما يكمن هنا الدافع الرئيس لتجديد اهتمام تركيا بتوطيد دولة كوسوفو: يحتاج أردوغان بشدة إلى بناء أجندة تُمكّن الولايات المتحدة وتركيا من العمل معاً لتعويض خلافاتهما حول أمور أخرى. يأمل أردوغان في صفقة كبيرة بين البلدين من شأنها أن ترى دور تركيا الإيجابي في قضايا مثل أفغانستان وكوسوفو وأوكرانيا لإقناع واشنطن بالسعي إلى حلٍّ وسط بشأن القضايا الشائكة الخلافية مثل شراء تركيا لنظام الصواريخ الروسي “أس-400” (S-400) وقضية بنك خلق. في هذا السياق، يمثل الاعتراف العالمي بكوسوفو قضية سهلة نسبياً لتحقيق تنسيق السياسة بين البلدين.

ربما يكون العامل الأميركي أثّر في قرار أردوغان لسببٍ آخر. في حين أن علاقات تركيا مع كوسوفو وثيقة للغاية، إلّا أنها لا تُضاهي العلاقات بين الولايات المتحدة وكوسوفو. ليس من المبالغة القول إن حدود نفوذ تركيا على كوسوفو وضعتها إلى حدّ ما أميركا. وقد ظهر هذا في وقتٍ سابق من هذا العام عندما تحرّكت بريشتينا لفتح سفارتها في القدس في تحدٍّ لضغط الاتحاد الأوروبي وتدخّل أردوغان الشخصي لدى سلطات كوسوفو. لذلك، سيكون نفوذ تركيا في كوسوفو أكبر إذا تمّ النظر في مبادراتها ذات الصلة بالتنسيق مع سياسات الولايات المتحدة.

قبرص والمجتمع الدولي

أخيراً وليس آخراً، لا يسع المرء إلّا أن يلاحظ أن أردوغان أدلى بهذا التصريح قبل ساعات قليلة من الذهاب في زيارةٍ أُعلِنَ عنها كثيراً إلى شمال قبرص الذي يحتله الجيش التركي. وأعلن خلال تلك الزيارة عن إعادة فتحٍ جزئية لمدينة فاروشا – وهي بلدة هجرها سكانها وتم تسييجها منذ الغزو التركي للجزيرة في العام 1974 – في تحدٍّ لقرارات مجلس الأمن الدولي. مع هذا الأمر الواقع، سعى أردوغان إلى المضي قُدُماً في “حل الدولتين” لقضية قبرص. ولكن، لم تنجح مقامرته، إذ بعد أسبوع أدان مجلس الأمن بالإجماع جميع الإجراءات التركية في فاروشا منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2020. علاوةً، دعم جميع أعضاء الأمم المتحدة (باستثناء تركيا) استمرار توحيد قبرص كدولة اتحادية ذات منطقتين وطائفتين. نظراً إلى توقيت بيانه الخاص بكوسوفو، ربما اعتقد أردوغان أن التقدم في قضية اعتراف بريشتينا سيزيد من فرص إنشاء جمهورية شمال قبرص التركية، المُعلَنة من جانب واحد، دولياً. ومع ذلك، يبدو أن المجتمع الدولي لا يرى أي علاقة بين المسألتين.

لدى تركيا وأردوغان أسباب متعددة لهذا اتغيير السياسي الأخير بشأن كوسوفو. عندما يعتقد أردوغان أن لديه فرصة لتحقيق مكاسب، فإنه يتّخذ الإجراءات دائماً. لقد بدأ الآن شهر أيلول (سبتمبر)، ومعه اقترب انتهاء تجميد الاعتراف بصربيا وكوسوفو واجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة رفيعة المستوى. لذا من غير المرجح أن تظل أنقرة هادئة وسلبية.

  • فوك فوكسانوفيتش هو باحث دكتوراه في العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (LSE)، وهو زميل في مركز أبحاث السياسة الخارجية في الكلية عينها، وباحث في مركز بلغراد للسياسة الأمنية. ونيكولاوس تريفاكيس هو أستاذ مشارك في العلاقات الدولية في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة بيلوبونيز، وباحث مشارك في مركز ويلفريد مارتينز للدراسات الأوروبية، وعضو في مجموعة البلقان في “أوروبا الاستشارية للسياسات”. الآراء الواردة في هذا المقال تخص الكاتبين.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى