فيينا: انتصارات واشنطن وطهران

محمّد قوّاص*

تكاد الهجمات التي شنّتها “ميليشيات إيرانية” ضد مواقع أميركية في سوريا قبل أيام أن تكون من عدّة شغل بعيدة من حسابات الطرفين في هذا البلد. الأمر يتعلق على الأرجح بتحضيرِ أجواءٍ تتعلّق بالمفاوضات الجارية في فيينا. الردّ الأميركي العاجل والنادر يصبّ أيضًا في الاتجاه نفسه.

تحرص طهران على تكرار خطابها الانتصاري في سياساتها. حتى حين تتعرّضُ مواقعها في سوريا لضرباتٍ إسرائيلية، فإن البروباغندا التابعة لإيران لا تخجل من الإفراط في شرح علامات انكسار الخصم وأعراض انتصاراتها التي لا تنتهي. تضخّ طهران التسريبات والتصريحات، خصوصًا على لسان كبير مفاوضيها على باقري كني، بشأن الاتفاق المُحتمل حول البرنامج النووي حاشدة كمَّ المعلومات التي تُفيدُ بالتنازلات التي تقدّمها واشنطن.

الإدارة الأميركية الديموقراطية تنفي التنازل. تستعدُّ لخوض انتخاباتٍ نصفية في تشرين الثاني (نوفمبر)، وتحتاج لرواية انتصار تستطيع أن تُجابه بها الخصوم الجمهوريين المُفاخرين بصوابية قرار الرئيس السابق دونالد ترامب الانسحاب من تلك الصفقة مع إيران في 8 أيار (مايو) 2018، بعد ثلاثة أعوام فقط من إبرامها في العاصمة النمساوية.

واشنطن تُسوّق هذه الأيام لمواهبها في منع إيران من إنتاج قنبلة نووية. يسعى الرئيس جو بايدن وفريقه المفاوض إلى تأكيد عزم إدارته على إعادة ضبط برنامج طهران النووي على مستويات تخصيب اليورانيوم المتفق عليها في العام 2015. حينها التزمت إيران بعدم تجاوز نسبة 3.67  في المئة، فيما وصلت هذه النسبة بعد انسحاب ترامب من الاتفاق إلى 60 في المئة مع التلويح بإمكانية الوصول إلى 90  في المئة، وهي النسبة المطلوبة لانتاج قنبلة نووية.

ابتلعت إيران بسهولة مُطالَبتها برفع الحرس الثوري عن لوائح الإرهاب الأميركي وهي قد تذهب إلى التخلّي عن شرطها بدفن تحقيقات تصرّ عليها الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن أنشطة مشبوهة في ثلاثة مواقع نووية. ستواري وتتجاوز مطالب عديدة تمّ اختلاقها أساسًا للتخلّي عنها في الوقت المناسب، لكنها ستستمر في الترويج للنجاحات التي حققها مفاوضو الرئيس إبراهيم رئيسي ولم يُحقّقها مفاوضو سلفه الرئيس حسن روحاني.

حساباتٌ داخلية دقيقة لدى إيران والولايات المتحدة استدعت كل هذا الوقت (منذ نيسان/أبريل 2021) لإعادة إحياء اتفاق فيينا. خرج الرئيس ترامب من الاتفاق بمراسيم رئاسية غير مُعقّدة وكان يُفترَض بالرئيس بايدن، الذي وعد ناخبيه بذلك، أن يعود إلى الاتفاق بمراسيم رئاسية مضادة. إيران نفسها عوّلت على بساطة الإجراءات على نحوٍ جعلها لا ترى آخر النفق إلّا بخروج الرئيس الجمهوري من البيت الأبيض ووصول رئيس ديموقراطي، وبايدن بالذات، إلى رأس الحكم في الولايات المتحدة.

أدركت طهران سريعًا أنها أمام جولات طويلة من المفاوضات مع واشنطن. وأدركت واشنطن أيضًا أن البرنامج النووي الإيراني بات مُتقدّمًا متطورًا ومن الخطورة بحيث أنه لن تكون كافية العودة الآلية إلى “خطة العمل الشاملة المشتركة”، الاسم “التجميلي” الرسمي لاتفاق فيينا لعام 2015. وإذا ما كانت “الدولة العميقة” تقف وراء قرار ترامب بالاطاحة بالاتفاق، فإن تلك “الدولة” تقف أيضًا وراء السعي إلى تحديثٍ جديد يزعم أن يكون أكثر شدّة لمنع طهران من دخول نادي البلدان التي تمتلك السلاح النووي.

استطاعت إيران تجاوز العقوبات التي وصفها ترامب بـ “التاريخية” والتعايش معها والالتفاف عليها. وليس صحيحا أن عقوبات ترامب كانت كافية لوحدها للضغط على طهران لسوقها لتنفيذ الشروط الـ12 التي أعلن عنها في 21 أيار (مايو) 2018 وزير الخارجية الأميركي آنذاك مايك بومبيو. استبعدت الإدارة الجمهورية أي ضغوط عسكرية بما أوحى لإيران بتدني الحدود القصوى التي يمكن أن تذهب إليها واشنطن. وحتى حين اغتالت إدارة ترامب علنًا الجنرال قاسم سليماني، بدا الحدث استثنائيا من خارج سياق الضغوط المُتعلّقة بالبرنامج النووي.

ستذهب واشنطن إلى إبرام اتفاق جديد مع طهران. الأمر ليس مُفاجِئًا، بل إن قرارًا مُتَّخَذًا في هذا الشأن منذ شهور، وما يتم تداوله في الساعات الأخيرة هو وضع بعض النقاط على بعض الحروف. المنطقة أيضًا كانت تعرف هذا المنحى واستنتجت بلدانها في زيارة بايدن في تموز (يوليو) إلى الشرق الأوسط، أن في ما صدر عن الرئيس الأميركي من مواقف في إسرائيل وفي اجتماعه مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس في بيت لحم، وما صدر عنه في اجتماعاته مع القادة السعوديين كما مع قادة الدول التي حضرت قمة جدة لا يعدو كونه تهيئة للحلفاء لتقبّل “حتمية” ذهاب الولايات المتحدة، في الوقت المناسب، للتوقيع على الاتفاق مع طهران.

النصّ الوسطي الذي قدّمه مُنسّق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، لم يكن إلّا استنتاجًا لما يمكن أن تذهب إليه واشنطن وطهران من تنازلات. قدمت العاصمتان ردّين مُنفصِلَين على اقتراحات الديبلوماسي الأوروبي وصفهما بوريل بالردود “المعقولة”. تنازلت إيران عن مطالب وشروط وأعلنت الانتصار. فعلت ذلك واشنطن أيضًا واعلنت انتصارها على قنبلة إيران النووية. أخذت دول المنطقة علمًا بتلك “الانتصارات” وراحت تتموضع وفق هذا المعطى النهائي الجديد.

على هامش الحدث أجواءُ انفراجٍ بدأت تلوح في علاقات بلدان عربية مع إيران. إعادة سفيري الإمارات والكويت إلى طهران. حديث عن حوار إيراني أردني. وحديث آخر عن تطور الحوار السعودي-الإيراني وتوقّع أن يرقى إلى مستوى وزراء الخارجية. وعلى هامش الحدث مواقفٌ إسرائيلية مُكثّفة مُتدافعة، بعضها انتخابي، تحذّر من “الكارثة” التي سيُسبّبها الاتفاق وسط برودة أميركية في الاصغاء إلى احتجاجات الحليف الإسرائيلي.

يبقى أن العالم يتأمل “انتصارات” واشنطن وطهران في سوريا كما في فيينا. لبكين وموسكو حساباتهما الجيوستراتيجية في إقفال هذا الملف، فيما لأوروبا وأميركا حسابات جديدة تفرضها حرب أوكرانيا تُضاف إلى الحسابات القديمة في الأمن والاستثمار التي أملت قبل سبع سنوات إبرام الاتفاق الشهير مع إيران.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى