إتفاقِيَّةُ “أوسلو”: دُروسٌ وَعِبَر

الدكتور ناصيف حتّي*

عقودٌ ثلاثة من الزمن مرّت منذُ ولادة إتفاقية “أوسلو” بَينَ منظّمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في 13 أيلول (سبتمبر) 1993، والتي عُرِفَت باتفاقيّةِ إعلانِ المبادئ حَولَ ترتيباتِ الحُكمِ الذاتي الانتقالي. الإتفاقية التي كانَ يُفتَرَضُ أن تُطلِقَ مسارًا تفاوضِيًا يُوَفِّرُ مُقارَبةً تدريجية للتوصّلِ إلى التسوية السلمية الشاملة بين الطَرَفَين، والتي من المنظور الفلسطيني تعني قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على ٢٢ في المئة من أراضي فلسطين التاريخية، وعاصمتها القدس الشرقية.

مؤتمر مدريد للسلام، الذي انعقدَ في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) ١٩٩١ بهدفِ التوصّلِ إلى تحقيقِ السلام الشامل والدائم على كافة المساراتِ المَعنية، شكّلَ نقطةَ الانطلاقِ للمفاوضات السلمية. ولكن سرعان ما رأت  القيادة الفلسطينية مع التعثّرِ الذي بدأ يِظهرُ غداة مؤتمر مدريد، والذي كما وصفه وزير الخارجية الاميركي حينذاك جيمس بايكر بأنَّ أهمية المؤتمر الحقيقية تكمن في انعقاده، أنَّ المطلوبَ هو الذهاب إلى اعتمادِ مُقاربةِ التسوية التدريجية والتي تقوم على سياسة المراحل. سياسةٌ تبدأ بإقامةِ الحُكمِ الذاتي للسلطة الفلسطينية بشكلٍ تدريجي في الجغرافيا وفي المسؤوليات والصلاحيات حتى قيام الدولة المستقلة، حسب أهداف السلطة الفلسطينية من المفاوضات. وجاء اتفاقُ “أوسلو ٢” في أيلول (سبتمبر) ١٩٩٥ ليؤكّد مُجَدَّدًا على تنظيم ترتيبات الحكم الذاتي وإحالة قضايا الحدود والمياه والمستوطنات واللاجئين إلى مفاوضات الاتفاق الدائم التي بالطبع لم تأتِ. وللتذكير، فشلت القمة الثلاثية التي استضافها الرئيس الاميركي بيل كلينتون في كامب ديفيد في تموز (يوليو) ٢٠٠٠  بمشاركة الرئيس ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل إيهود باراك ،لإحياء الاتفاق الذي بدأ بالاحتضار، وتبعتها مفاوضاتٌ فلسطينية-إسرائيلية في كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٠ لم تُقَلِع أساسًا غداة انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية، إنتفاضةُ الاقصى في أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٠.

مُقابلُ إنجازِ اتفاقية “أوسلو” التي كانَ يُفتَرَضُ أن تُهيِّئ تدريجًا لإزالة الاحتلال، لم توقف السلطاتُ الإسرائيلية سياسةَ إقامةِ الطُرُقِ التي تُحاصِرُ القرى الفلسطينية وتربط بين المستوطنات. واستمرّت في سياسة تعزيز الإستيطان، ولو بسرعاتٍ مُختلفة في البداية ولكن بدون توقّف. كما عزّزت سيطرتها على الأرض والمياه والفضاء. كما قامت بتقطيع أوصال ما يُفتَرَضُ أن تكون الاراضي التي ستقوم عليها الدولة الفلسطينية. فجرى فصل القدس الشرقية عن الضفة الغربية، وكذلك فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية أيضًا.

وكانَ واضحًا منذ البداية، وتأكَّدَ مع كلِّ يوم مضى، أنَّ هدفَ إسرائيل لا يتعدّى إعطاءَ سلطاتٍ من نوع الحكم الذاتي للفلسطينيين: سلطاتٌ محلية، لا يُمكنُ أن تتحوَّلَ يومًا إلى سلطاتٍ سيادية، حسب الاستراتيجية الإسرائيلية المُعتَمَدة بشكلٍ ظاهر أو مُغَطّى بعض الشيء بواسطة مقترحاتٍ للتفاوض بهدف شراء الوقت وتغيير الوضع القائم على الأرض. الهدفُ الإسرائيلي نُفِّذَ بشكلٍ تدريجي ولو أنه صار مع الوقت ومع تراجعِ القضية الفلسطينية عن جدول الأولويات الفعلية وليس الكلامية أو “الشعاراتية” في المنطقة، أكثر وضوحًا في الخطاب وأكثر حدّة في الممارسة. ثم صار أكثر صراحةً ووضوحًا وفجاجةً مع وصول اليمين الديني المتشدّد إلى السلطة وسياسة التهويد الناشطة على الصعيدَين الجغرافي والسكاني التي يتبعها في الأراضي المحتلة. السياسةُ التي تعمل ايضًا  على  تغييرِ طبيعة ودور مؤسّسات السلطة في إسرائيل  سواء في القضاء أو في مجالاتٍ أُخرى وفقًا للقناعات العقائدية لهذه القوى الدينية الأصولية في السلطة الأمر الذي قد يؤدّي إلى صدامٍ أهلي داخلي عنيف. كما تعمل السلطة الجديدة لإحداثِ وإصدار مزيدٍ من قوانين التمييز العنصري ضد المواطنين غير اليهود في الدولة. كلّها عواملٌ تدفع نحو حصول انفجار في “البيت الإسرائيلي” حول هوية السلطة ودورها كما تُهيِّئ الأرضية من خلال ما أشرنا إليه سابقًا لحصولِ انفجارٍ أو إنتفاضةٍ ثالثة قد تختلفُ في طبيعتها وسماتها عن الانتفاضتَين السابقتَين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

في الذكرى الثلاثين لولادة اتفاقية “أوسلو”، التي لم تُعمّر في مسارها المُنتَظَر من أهلها وممن راهن عليها من الخارج أكثر من سنواتٍ قليلة جدًا، نخلصُ الى درسٍ أساسٍ للمستقبل مفاده التالي: إنَّ أيَّ مسارٍ تفاوضي لا يستطيع أن يُحقّقَ أهدافه بتحقيقِ السلام المنشود والعادل إذا لم يستند بشكلٍ مستمر إلى توازنِ قوى ولو ديناميكي يخدمُ الأهدافَ التي انطلقَ ذلك المسارُ لتحقيقها.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربية ولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى