هلّ مِنَ العدلِ أن يَعيشَ المُجرِمون بأمانٍ واستقرارٍ، بينما أسَرُ الضحايا تُعاني من التعذيب النفسي؟
شيءٌ واحدٌ صار أوضح من أي وقت مضى، وهو أن الطبقة السياسية في لبنان لا تجلب سوى البؤس للشعب. لقد أصبحت قائمة ضحاياها أطول لكي لا تبقى الأشياء كما هي.
مُهنّد الحاج علي*
في 13 تموز (يوليو)، قبل ثلاثة أسابيع من الذكرى الأولى لانفجار الرابع من آب (أغسطس) 2020 في مرفأ بيروت، حاولت أُسَرُ أكثر من 200 ضحية اقتحام منزل وزير الداخلية اللبناني في حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي. كانوا غاضبين من رفض فهمي رفع الحصانة عن ضابطٍ كبير أراد القاضي المُكَلَّف بالتحقيق في الانفجار استجوابه. تعرّضت العائلات، التي كانت تحمل توابيت فارغة لإحياء ذكرى أحبائها، للضرب على أيدي الشرطة لمطالبتهم بالعدالة والمُساءلة.
وأعقبت رفض فهمي السماح للواء عباس إبراهيم، المدير العام للأمن العام، بمقابلة قاضي التحقيق طارق البيطار، مساعٍ من مجلس النواب اللبناني لتعطيلِ طلباتٍ مُماثلة. ويُريد البيطار استجوابَ عددٍ من قادة الأمن والبرلمانيين الذين شغلوا مناصب وزارية في الحكومات التي سمحت لـ 2,750 طناً من نيترات الأمونيوم، التي تسبّبت في الانفجار، بالبقاءِ مُخزَّنة في المرفأ لسنوات.
من حهتها، تبدو القيادة السياسية اللبنانية على أنها عازمة على عرقلة التحقيق. في شباط (فبراير) الفائت، أُقيل قاضي التحقيق السابق، فادي صوّان، بعدما اتَّهَمَ وزيرين سابقين بالإهمال. إن هذا الإنكار الصارخ للعدالة والحجم الهائل لتفجير 4 آب (أغسطس) قد حَوَّلا عائلات الضحايا إلى مجموعةِ ضغطٍ حازمة. لقد قادت احتجاجاتٍ وظلّت مُتَّحِدة في معركة غير مُتكافئة ضد طبقة سياسية لا تزال فوق القانون وتتألف في الغالب من أمراءِ حربٍ سابقين ورجالِ أعمالٍ فاسدين.
نظراً إلى نظامِ تَقاسُمِ السلطة في لبنان وتأثير ذلك في القرارات السياسية والإدارية، فمن المحتمل أن تشمل مسؤولية شحن نيترات الأمونيوم شريحةً واسعة من أعضاء الطبقة السياسية. لقد تمّ تخزين المُرَكَّب الكيميائي في المرفأ اعتباراً من أيلول (سبتمبر) 2013، وحقيقةُ عدم القيام بأي شيء لإزالته تُلخِّصُ جرائم القيادة السياسية في العقود الثلاثة منذ نهاية الحرب الأهلية في لبنان. إن السياسيين في البلاد قد حَكَموا من خلالِ مزيجٍ من الجشع، واللامبالاة بالصالح العام، والغياب التام للمساءلة. لقد وضعت هذه العقلية الحاكمة لبنان على طريق التدمير الذاتي.
ومع ذلك، فإن ضحايا تفجير المرفأ كانوا فقط الأحدث في سلسلة طويلة من الضحايا، يعود تاريخها إلى الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت خمسة عشر عاماً والتي بدأت في نيسان (أبريل) 1975. لم يُحاسَب أيُّ شخصٍ على الإطلاق على الجرائم التي ارتُكِبَت أثناء النزاع، الذي أدّى إلى مقتل نحو 150 ألف شخص حسب بعض التقديرات. والواقع أن قانونَ عفوٍ عام صدر في العام 1991 حالَ دون مُحاكمة الغالبية العظمى مِمَن ارتكبوا جرائم في زمن الحرب.
فقط عائلات الذين اختفوا خلال الحرب – وهو رقمٌ يُقدَّر ما بين 5,000 و17,000 شخص – احتجت على تداعيات قانون العفو. وعلى الرغم من التغطية الإعلامية المحدودة وقلّة الدعم من المجتمع المدني، واصلت العائلات جهودها، غالباً بتكلفةٍ عالية. في 23 كانون الثاني (يناير) 1991، رفعت نجاة حشيشو، زوجة مُدرّسٍ ثانوي شيوعي، قضية زوجها إلى المحكمة، وعرفت أحد جيرانها على أنه من بين رجال الميليشيا الذين اختطفوه. لقد فشلت قضيتها في التقدّم على مدى أكثر من 22 عاماً حيث تأخّرت جلسات المحكمة مراراً وتكراراً، بشكلٍ غير مُبرَّر، إلى أن خسرت. وتساءلت نجاة في بيانٍ بعد انتهاء معركتها القضائية المُخيِّبة للآمال: “هل من العدل أن يعيش الذين تسبّبوا بالأذى بأمانٍ واستقرار، بينما تُعاني أُسَرُ المخطوفين من التعذيب النفسي والقلق المستمر؟”.
لم يكن سؤالها أبداً مُناسِباً كما يُناسب الحال اليوم. تستمر مأساة لبنان حيث بقيت طبقته السياسية سليمة تماماً من المعاناة التي سبّبتها. في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، عقب مظاهرات حاشدة على مستوى البلاد ضد القيادة السياسية للبلاد، إستيقظ اللبنانيون ليكتشفوا أن بنوكهم جمّدت حساباتهم، نتيجة الأزمة المالية المُتزايدة التي كانت تختمر منذ بعض الوقت. ومع ذلك، فإن هذه البنوك نفسها، التي يرتبط العديد منها بعلاقات وثيقة مع قادة البلاد، سمحت للسياسيين بتحويل مليارات الدولارات إلى حساباتهم في الخارج.
ورُغم سقوط غالبية اللبنانيين تحت خط الفقر منذ ذلك الحين، فلم يُغيّر ذلك من سلوك الطبقة السياسية بأيِّ شكلٍ من الأشكال. بالنسبة إلى السياسيين في البلاد، تسير الأمور كالمعتاد. لا أحد يُحاسِب، لذا لا أحد يهتم، بينما تتواصل حفلات الزفاف الباذخة والسفريات الخارجية للنخبة السياسية. ينصبُّ تركيز السياسيين الآن على الانتخابات الثلاث المُقرَّر إجراؤها في العام المقبل – الانتخابات البلدية والانتخابات البرلمانية والانتخابات الرئاسية. وتشمل حملتهم حشد الدعم من خلال تصعيد الاستقطاب الطائفي واستخدام العملات الأجنبية الجديدة التي يتم جلبها من الخارج لشراءِ الولاءِ السياسي.
في 4 آب (أغسطس)، سيُطالِبُ أهالي ضحايا انفجار المرفأ وأنصارهم بالمحاسبة. رابطةُ الضحايا اللبنانيين آخذة في الاتساع: المودعون الذين فقدوا مدّخراتهم؛ الموظّفون الذين تبخّرت رواتبهم بسبب انهيار الليرة اللبنانية؛ وعائلات القتلى والمفقودين في العقود الأخيرة. هناك شيءٌ واحدٌ أوضح من أي وقت مضى، وهو أن الطبقة السياسية في لبنان لا تجلب سوى البؤس للشعب. لقد أصبحت قائمة ضحاياها أطول لكي لا تبقى الأشياء والأمور كما هي.
- مُهنَّد الحاج علي هو مدير الاتصالات وزميل في مركز مالكولم إتش كير كارنيغي للشرق الأوسط. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @MohanadHageAli
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.