الحَقيقةُ القاسية حَولَ “بيتكوين”

هل العُملات المُشَفّرة هي موجة المستقبل وهل يجب عليك استخدامها والاستثمار فيها؟ وهل التقلبات الهائلة في أسعارها – حيث خسرت ما يقرب من تريليون دولار من قيمتها الإجمالية في أيار (مايو) الفائت – تُنذِرُ بمشاكل للنظام المالي؟

“ديم”: عملة فايسبوك الآتية قريباً

إسوار براساد*

عرفت “بيتكوين” (Bitcoin)، العملة المُشَفَّرة الأصلية، رحلةً جامحةً منذ إنشائها في العام 2009. في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، إرتفع سعرها إلى أكثر من 60,000 دولار، بزيادة ثمانية أضعاف في 12 شهراً. ثم انخفضت إلى نصف هذه القيمة في غضون أسابيع قليلة. كما ارتفعت قِيَمُ العملات المُشفّرة الأخرى مثل “دوجكوين” (Dogecoin) وانخفضت بشكلٍ أكثر حدّة، غالباً استناداً إلى تغريدات الملياردير الأميركي “إيلون ماسك” (Elon Musk) فقط. حتى بعد الانخفاض الأخير في أسعارها، تجاوزت القيمة السوقية الإجمالية لجميع العملات المُشَفَّرة الآن 1.5 تريليون دولار، وهو مبلغٌ مُذهلٌ لكائناتٍ افتراضية لا تعدو كونها رمزاً كمبيوترياً.

هل العُملات المُشَفّرة هي موجة المستقبل وهل يجب عليك استخدامها والاستثمار فيها؟ وهل التقلّبات الهائلة في أسعارها – حيث خسرت ما يقرب من تريليون دولار من قيمتها الإجمالية في أيار (مايو) الفائت- تُنذِرُ بمشاكل للنظام المالي؟

تمّ إنشاء بيتكوين (من قبل شخص أو مجموعة ما زالا مَجهولَي الهوية حتى يومنا هذا) كطريقةٍ لإجراءِ المعاملات المالية بدون تدخّل طرفٍ ثالث موثوق به، مثل البنوك المركزية أو المؤسسات المالية. كان ظهورها في خضم الأزمة المالية العالمية، التي زعزعت الثقة في البنوك وحتى الحكومات، توقيتاً مثالياً. مكّنت بيتكوين المعاملات باستخدام الهويات الرقمية فقط، ومنح المُستخدمين درجة مُعَيَّنة من إخفاء الهوية. وهذا جعل بيتكوين العملة المُفضّلة للأنشطة غير المشروعة، بما فيها هجمات الفدية السيبرانية الأخيرة. لقد دعمت شبكة الظل المظلمة التجارة غير القانونية عبر الإنترنت مثلما ساعدت “باي بال” (PayPal) على ظهور “إي باي” (eBay) والتي جعلت عمليات المدفوعات أسهل.

مع ازدياد شعبيتها، أصبحت عملة “بيتكوين” مُرهَقة وبطيئة ومُكلفة للاستخدام. يستغرق التحقق من صحة معظم المعاملات لاستخدام العملة المشفرة حوالي 10 دقائق، وكانت رسوم المعاملة في المتوسط ​​حوالي 20 دولاراً هذا العام. كما أن قيمة البيتكوين غير المُستقرّة جعلت منها وسيلةَ تبادل غير قابلة للتطبيق. يبدو الأمر كما لو أن فاتورتك بقيمة 10 دولارات قد تشتري لك بيرة اليوم  وزجاجة من النبيذ الفاخر غداً.

علاوةً على ذلك، أصبح من الواضح أن بيتكوين لا تُوفّر إخفاءً حقيقياً للهوية. لقد أدّى نجاح السلطات الأميركية في تتبع واسترداد جزءٍ من فدية بيتكوين المدفوعة إلى مجموعة القرصنة من شركة “كولونيال بابلاين” (Colonial Pipeline ) إلى زيادة الشكوك حول أمان معاملات بيتكوين وعدم قابليتها للتتبع.

بينما فشلت بيتكوين في أهدافها المُعلَنة، فقد أصبحت استثماراً تخمينياً ومُضارِباً. وهذا أمرٌ مُحَيِّر، إذ أنها لا تتمتع بقيمة جوهرية ولا يدعمها أي شيء. سيُخبِرُك محبو بيتكوين أنها، مثل الذهب، تأتي قيمتها من ندرتها – تفرض خوارزمية كمبيوتر بيتكوين حدّاً ثابتاً يبلغ 21 مليون عملة رقمية (تم إنشاء ما يقرب من 19 مليوناً حتى الآن). لكن الندرة بحدّ ذاتها لا يُمكن أن تكون مصدراً للقيمة. يبدو أن مستثمري البيتكوين يعتمدون على النظرية الخادعة الكبرى – كل ما تحتاجه للربح من الاستثمار هو أن تجد شخصاً على استعداد لشراء الأصل بسعرٍ أعلى.

على الرغم من التقييماتِ المُرتفعة على الورق، فمن غير المُرجّح أن يؤدي انهيار عملة البيتكوين والعملات المُشَفَّرة الأخرى إلى زعزعة النظام المالي. ظلّت البنوك في الغالب على الهامش. كما هو الحال مع أيّ فقّاعة مُضارَبة، فإن المستثمرين السذّج الذين يأتون إلى الحفلة في وقتٍ مُتأخّر يكونون أكثر عُرضةً للخسائر. يجب على الحكومة بالتأكيد تحذير مستثمري التجزئة من أنهم، كما هو الحال في ملحمة “غايم ستوب” (GameStop)، يتصرّفون على مسؤوليتهم الخاصة. لقد تم بالفعل تنظيم الأوراق المالية التي تُتيح المضاربة على أسعار البيتكوين، ولكن لا يوجد الكثير الذي يُمكن للحكومة أو يجب عليها القيام به.

بيتكوين ليست غير ضارّة أو غير مؤذية. تتم معالجة المعاملات من قبل “عمال مناجم” باستخدام كميات هائلة من القدرة الحاسوبية مقابل مكافآت في شكل بيتكوين. وفقاً لبعض التقديرات، تستهلك شبكة بيتكوين قدراً كبيراً من الطاقة بالقدر عينه الذي تستهلكه بلدان بأكملها مثل الأرجنتين والنروج، ناهيك عن جبال النفايات الإلكترونية من الآلات المُتخصّصة المُستَخدَمة في عمليات التعدين التي تحترق بسرعة.

بغض النظر عن مصير بيتكوين النهائي، فإن تقنية بلوك تشين” (blockchain) الخاصة بها هي حقاً بارعة ورائدة. أظهرت بيتكوين كيف يُمكن تسخير البرامج التي تعمل على شبكات الكمبيوتر لإجراء المدفوعات بشكل آمن، داخل البلدان وفي ما بينها، بدون الاعتماد على المؤسسات المالية الجشعة التي تفرض رسوماً عالية. بالنسبة إلى العمال المهاجرين الذين يرسلون تحويلاتهم إلى بلدانهم الأصلية، على سبيل المثال، تُمثّل هذه الرسوم عبئاً كبيراً. إن التقنيات التي تجعل المدفوعات أرخص وأسرع وأسهل في التتبع ستُفيد المستهلكين والشركات، وتُسهّل التجارة المحلية والدولية.

التكنولوجيا لا تخلو من المخاطر. تُخطّط “فايسبوك” (Facebook) لإصدار عملةٍ مُشَفّرة خاصة بها تُدعى “ديم” (Diem) أو “ليبرا” (Libra) تهدف إلى تسهيل المدفوعات الرقمية. على عكس بيتكوين، سيتم دعم “ديم” بالكامل باحتياطات من الدولار الأميركي أو العملات الرئيسة الأخرى، مما يضمن قيمةً مُستقرة. ولكن، كما هو الحال مع مبادراتها الأخرى ذات التفكير السامي ظاهرياً، يصعب الوثوق في “فايسبوك” لوضع رفاهية ومصالح الجمهور فوق رفاهيتها ومصلحتها. إن احتمال قيام الشركات مُتعدّدة الجنسيات في يوم من الأيام بإصدار عملاتها المشفرة غير المدعومة في جميع أنحاء العالم أمرٌ مُقلقٌ للغاية. مثل هذه العملات لن تُهدّد الدولار الأميركي، لكنها قد تقضي على عملات البلدان الأصغر والأقل تقدّماً.

تعمل المُتغيّرات التقنية لبيتكوين أيضاً على إتاحة العديد من المنتجات والخدمات المالية للجماهير بتكلفة مُنخفضة، ما يؤدي إلى ربط المُدَّخرين والمُقتَرضين مباشرة. لقد حفّزت هذه التطورات والإمكانيات التي أوجدتها التقنيات الجديدة البنوك المركزية على النظر في إصدار نسخ رقمية من عملاتها الخاصة. تجري الصين واليابان والسويد بالفعل تجارب على عملاتها الرقمية.

ومن المُفارقات، أنه بدلاً من إضفاء الطابع الديموقراطي الحقيقي على التمويل، فإن بعض هذه الابتكارات قد تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة. قد يؤدي التثقيف المالي غير المُتكافئ والوصول الرقمي إلى حصول المستثمرين المُحنّكين على الفوائد في حين أن الأقل ثراءً، والمُنبَهرين بالتكنولوجيات الجديدة، يتحمّلون مخاطر لا يفهمونها تماماً. يُمكن أن تؤدي خوارزميات الكمبيوتر إلى تفاقم التحيّز العنصري الراسخ وغيره من التحيّزات في تسجيل الائتمان والقرارات المالية، بدلاً من تقليلها. كما يُمكن أن يؤدي انتشار المدفوعات الرقمية في كل مكان أيضاً إلى تدمير أي آثار متبقية للخصوصية في حياتنا اليومية.

في حين أن أسعار البيتكوين المتذبذبة صعوداً وهبوطاً تحظى بالاهتمام، فإن العواقب الأبعد بكثير هي الثورة في المال والتمويل التي انطلقت والتي ستؤثر في النهاية في كل واحد منّا، للأفضل والأسوأ.

  • إسوار براساد هو أستاذ أول لسياسة التجارة والإقتصاد في جامعة كورنيل. وهو أيضاً زميل كبير في معهد بروكينغز، حيث يشغل كرسي القرن الجديد في التجارة الدولية والاقتصاد، وباحث مشارك في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية. وهو رئيس سابق لقسم الصين في صندوق النقد الدولي. يمكن متابعته عبر تويتر على: @EswarSPrasad
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى