دمشق تتأهب للحرب أم للتسوية؟

أحمد أصفهاني*

تقف الجمهورية السورية الآن على مشارف مرحلة جديدة قد تكون فاصلة، بعد عقد كامل من الحروب الداخلية والتدخّلات الإقليمية والدولية. فقد أنجزت دمشق الاستحقاق الرئاسي في أواخر أيار (مايو) الماضي، وحقّق الرئيس بشار الأسد فوزاً كبيراً كما كان مُتَوَقَّعاً. وقبل أيام أدّى قَسَمَ اليمين الدستورية لولايةٍ رابعةٍ تَمتَدُّ على سبع سنوات. وألقى خطاباً شاملاً حدّد فيه ملامحَ المُهمّات المطلوب التعامل معها على وجه السرعة.

طبعاً لم تَغِب المواقف الغربية (أوروبا وأميركا) عن هذه الانتخابات، إذ كرّرت بعض الدول تصريحاتها التي تُشكّك بالعملية الانتخابية، وترفض الاعتراف بشرعية القيادة السورية. والحقيقة أن هذا الكلام لا يُغيّر الكثير من الواقع الميداني الذي تكرّس أخيراً. والرئيس الأسد موجود في سدة الحكم، والقلق الذي يعتريه غير مُرتَبِط بالتشكيك الغربي وإنما بمسائل مصيرية أُخرى باتت تستدعي تحرّكاً عاجلاً لكَسرِ حالة الجمود المُسَيطرة على الساحة السورية.

لا يُمكن لدمشق أن تنام على حرير “النجاح” في الاستحقاق الانتخابي، فالوضع العام، إقتصادياً واجتماعياً وصحّياً، يَضغط بقسوة على المواطن الذي أنهكته سنوات الحرب الدامية. وهذا ما اعترف به الرئيس الأسد في خطابه عندما قال إن هاجس القيادة في تلك الفترة العصيبة تمحور حول “الأمن والخوف على وحدة الوطن”. وأضاف يقول إن جلَّ المُهمّات المُقبلة هي “تحرير ما تبقّى من الأرض ومواجهة التداعيات الاقتصادية والمعيشية للحرب”.

إذن تجد القيادة الشامية نفسها أمام خيارات صعبة، يزيدها تعقيداً الحصار الأميركي على سوريا. يُضاف إلى ذلك أن الدولة فقدت سيطرتها على مناطق شاسعة هي الأغنى، كونها تضم حقول النفط والغاز والأراضي الزراعية الخصبة. ففي الشمال الشرقي تُهيمن الميليشيات الكردية المدعومة بوجود عسكري أميركي ـ أطلسي. وفي الشمال الغربي تتوسّع السيطرة العسكرية التركية، وتختلط فصائل المعارضة مع تنظيمات مُتطرّفة يُصنّفها المجتمع الدولي بأنها “إرهابية”.

في ظل الأزمة الخانقة في الشام، والمُرَشَّحة لمزيدٍ من التدهور، وطالما أن الجمود الميداني يحرم الدولة من ثرواتها ويرفع درجات التوتّر الاجتماعي… فإن المخرج الوحيد المُتاح لدمشق هو كسر هذه الدائرة المُغلَقة سياسياً أو عسكرياً، طبعاً بالتنسيق مع الحليف الروسي. وعندما تحدّث الأسد عن المناطق المحتلة في الشمال، أكد أن موقف دمشق هو “تحريرها من الإرهابيين ورُعاتهم الأتراك والأميركيين”. لكن إنجاز “تحرير” تلك المناطق يعني تصعيداً قتالياً ذا أبعادٍ إقليمية ودولية.

القيادة الشامية تُدرِكُ أن الاستمرار في وضعية اللاحسم سيكون على حساب الشعب السوري الذي بلغت معاناته المعيشية حدّها الأخطر. ولذلك فإن خيارَ تحريك الجبهات، على الرغم من التداعيات الناشئة عنه، يبقى أهون الشريّن. وتأمل دمشق في أن تُحقّق خرقاً ميدانياً يؤدي إلى عودة السيادة السورية على التراب الوطني، أو فتح أبواب التفاوض السياسي من أجل تخفيف حدّة الحصار الأوروبي ـ الأميركي. لكن يبقى هناك احتمالٌ بأن تفلت الأمور عن السيطرة نظراً إلى الاعتبارات المُتشابكة بين المحلّي والإقليمي والدولي.

وفي هذا الإطار نضع زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى دمشق قبل أيام. وهو أول مسؤول صيني رفيع يزور سوريا منذ اندلاع الأحداث قبل عشر سنين. ومع أن بكين استعملت حق النقض (الفيتو) مرّاتٍ عدة في مجلس الأمن الدولي لحماية سوريا، إلّا أن محادثات وانغ يي تؤكد أن القيادة الصينية تسعى إلى نسج علاقة أوثق، خصوصاً في مجال إعادة الإعمار. ولا ننسى طبعاً البُعد الأمني، حيث أن جماعات الإيغور الصينيين ينشطون في منطقة إدلب برعاية تركيا وحمايتها. وتتّهم بكين الإيغور بتنفيذ عمليات إرهابية في الصين، وتقول إن حوالي خمسة آلاف منهم يتلقّون التدريبات على أيدي الأتراك في إدلب.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن زيارة الوزير الصيني، والاتفاقات المُتوقّعة مع الحكومة السورية، لا بدّ وأن تكون بالتنسيق مع روسيا. إن القدرات الاستثمارية التي تستطيع بكين توظيفها في مرحلة الإعمار المقبلة، ستكون الوجه الآخر لما تُقدّمه موسكو على الصعيد العسكري الاستراتيجي. صحيح أن القيادة الروسية تُواصل مساعيها السياسية مع تركيا وأميركا في ما يتعلق بالملف السوري، غير أنها تعي في الوقت نفسه أن وضعية الجمود لا يُمكن أن تستمرّ إلى أمد غير منظور! وبالتالي لا يُمكن لدمشق أن تضبط النفس ريثما تنضج “التسوية”… فالشعب السوري الذي احتمل ما لا يحتمله شعب آخر في ظروف مماثلة، يتوقّع أن تلوح في أفق مآسيه تباشير الخلاص إما على طاولة المفاوضات، أو في الميدان القتالي الحاسم.

والأسابيع المقبلة ستكون حبلى بالتوقّعات والمفاجآت!!

  • أحمد أصفهاني هو كاتب وصحافي لبناني. كان سابقاً مدير التحرير في صحيفة “الحياة” في لندن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى