تخفيف المعاناة في أحلك الساعات: صراعُ لبنان على الطاقة
يغوص لبنان بثبات في ظلامٍ دامس. لقد أثّرت عقودٌ من المُشاحنات السياسية وضُعفِ الحُكم والمصالح الخاصة في قطاع الطاقة وتطوّر إلى أزماتٍ اقتصادية وإنسانية. هناك حاجة إلى استراتيجية طويلة الأجل تُركّز على تحسين حَوكَمة القطاع. ومع ذلك، في المدى القصير، ينبغي اتخاذ إجراءاتٍ فورية مثل الإستعانة بالطاقة المُتجدّدة المُوَزَّعة وآليات تمويل خلّاقة “من خارج الصندوق” لتجنّب أحلك الأوقات.
جيسيكا عبيد*
منذ أوائل التسعينات الفائتة، دفع المواطنون اللبنانيون تكلفة باهظة لقطاع الطاقة غير الفعّال، ما أدّى إلى إجهاد الاقتصاد والموازنات العامة. يُمثّل القطاع 40٪ من الدين العام، واضطر المواطنون والشركات إلى الاعتماد على خدمة الكهرباء الثانوية التي توفّرها مولّدات الديزل باهظة الثمن، ما قلّل من القدرة الشرائية والقدرة التنافسية. على الرغم من كل هذه التكلفة، يشعر اللبنانيون بالقلق الآن من أنهم قد يفقدون خدمات الكهرباء ويُترَكون في الظلام.
إن انقطاع التيار الكهربائي بشكل كامل سيكون بمثابة حكمٍ بالإعدام على الاقتصاد حيث سيؤثر في كل شيء من توفير المياه إلى الوصول إلى الرعاية الصحية واللقاحات. ولكن ستكون له أيضاً تداعياتٌ سياسية كبيرة. من شأن خروج المتظاهرين إلى الشوارع أن يزيد من زعزعة استقرار الدولة الهشّة أصلاً، وهذا هو سبب حرص المسؤولين على الحفاظ على نوعٍ من توفير الطاقة المحدود. لكن لماذا لا يشرعون في إصلاحاتٍ جادّة؟ باختصار، المسؤولون أنفسهم الذين تشاركوا، وما زالوا، السلطة على مدى العقود القليلة الماضية طوّروا مصالح راسخة هائلة عبر سلسلة القيمة في قطاع الطاقة. بقدر ما قد تبدو هذه الإجابة بسيطة، فإن الكشف عن هذه المصالح المُكتَسبة يُمثّل تحدّياً. والأسباب الجذرية لذلك هي ضعف الحَوكمة والمؤسسات وغياب المُساءلة. ونتيجة لذلك، عَلِقَت البلاد في مأزقٍ سياسي، ما أعاق أيّ إصلاحات لقطاع الطاقة لما يقرب من ثلاثة عقود.
وبدلاً من وضع البلاد على مسار الإصلاح، ازدادت الخلافات السياسية سوءاً وسط تزايد تأثير الأزمات المالية والاقتصادية وتقاعس المسؤولين منذ أول تعثّرٍ للبنان في تاريخه لسداد ديونه في آذار (مارس) 2020. وقد دفعت الحكومات اللبنانية تاريخياً باتجاه إصلاحاتٍ مؤقتة وسريعة مُكلفة، أبقت على الوضع الراهن ووضعت القطاع في حلقة مفرغة. ومن الأمثلة على ذلك استئجار بواخر الطاقة الباهظة الثمن منذ العام 2013 وأخيراً، مما يضع المواطنين بين المطرقة والسندان مع اختيار انقطاعٍ تام للتيار الكهربائي أو الغَرف من الاحتياطات المُتضائلة للبنك المركزي لاستيراد الوقود.
يستدعي مدى الأزمات وحجمها اتباع نهج أمثل لاستراتيجيات قصيرة وطويلة الأجل لمعالجة تقلّص احتياطات العملات ومشاكل قطاع الطاقة، بدءاً من مراعاة نقص الإمدادات المُقدَّر بحدٍ أدنى ب1,500 ميغاواط إلى تقليل تكلفة التعافي والإصلاح و38٪ من الخسائر التقنية وغير التقنية، بما فيها عدم الفَوتَرة، وعدم التحصيل، والتوصيلات غير القانونية.
يجب أن تحافظ الإستراتيجية قصيرة المدى على القوة الحاسمة بدون خلق تداعيات سلبية أو مصالح راسخة إضافية من شأنها أن تُعرقل الإستراتيجية والإصلاحات طويلة المدى. يجب أن يكون الهدف من الاستراتيجية طويلة الأجل هو توفير الكهرباء بأسعار معقولة مع تعظيم الاعتماد على الموارد الطبيعية المحلية – والتي هي حتى الآن مصادر مُتجدّدة فقط – لتعزيز أمن الطاقة وتقليل مدفوعات العملات الأجنبية على واردات الوقود.
ترتبط إصلاحات قطاع الطاقة حالياً بحزمة مالية لم تبدأ الحكومة بعد التفاوض بشأنها. لا يمكن أن يكون هناك اقتصادٌ مُزدهر بدون توفير كهرباء مُنخفضة التكلفة. يتطلب شراء أرخص الحلول وتقليل الخسائر غير التقنية تعزيزاً كبيراً لحَوكمة القطاع، وهذا أمر مُستَبعَدٌ جدّاً نظراً إلى السياق السياسي الحالي. يبدأ تعزيز الحَوكمة بتقوية المؤسسات وبناء ثقة المواطنين والمُستثمرين. لكن فجوة الثقة بين المواطنين والحكومة آخذة في الاتساع حالياً، مما يُقلّل من رغبة المواطنين في الدفع مقابل الخدمات التي تُقدّمها الدولة. سيكون هذا رادعاً رئيساً لزيادة التعرفة على الكهرباء التي تُوفّرها شركة كهرباء لبنان المملوكة للدولة. إن غياب سلطة الدولة يجعل من المستحيل تقريباً منع أو قطع التوصيلات غير القانونية وفَوتَرة وتحصيل المدفوعات بشكل صحيح من جميع المواطنين. وبالمثل، يحتاج المستثمرون إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي، ونُظم وقوانين قوية، وسيادة القانون لدخول السوق. إن وجود جهة تنظيمية مستقلة تتمتّع بصلاحيات كاملة وعملية شراء فعالة من شأنه أن يشير إلى إرادة جادة للإصلاح. لكن المسؤولين اللبنانيين قاوموا كل هذه الإجراءات في العقود الماضية. لذلك فمن المُستحسَن أن يتم تضمين الحُكم المُحَسَّن والمُعَزَّز كجزءٍ من الإستراتيجية طويلة المدى.
في المدى القصير، يُعَدُّ الحفاظ على الأحمال الحرجة بالطاقة أولوية رئيسة، وتجاوز إختناقات وزواريب الحكومة المركزية أمرٌ ضروري لتحقيق ذلك. ستضمن الإجراءات التالية تقليل الاعتماد على شركة كهرباء لبنان ومولّدات الديزل، وبالتالي تدفقات العملات الأجنبية إلى الخارج:
- طرحُ حلٍّ لامركزي فوري لتوليد الطاقة. وضع وتطوير خطة فورية لتوليد الطاقة اللامركزية من خلال نموذجٍ هجين للطاقة الشمسية الكهروضوئية/الديزل بالتعاون مع البلديات، حيث يمكن للمولدات الحالية أن تكون مركزية على مستوى المدينة/البلدة وتوصيلها بأنظمة الطاقة الشمسية. هذه النماذج ستعتمد بشكلٍ أساس على الطاقة الشمسية، وتتكامل إما مع شركة كهرباء لبنان أو مولّدات الديزل حسب الحاجة. يُمكن أيضاً نشر هذه الأنظمة على شبكة التيار الكهربائي ذي الجهد (الفولتاج) المُنخفض.
- إنشاء مرفق الاستثمار الأخضر كصندوق مُتجدّد أو تمويل مُختلط للطاقة المُتجدّدة مع مؤشرات أداء عالية التأثير. يندرج مرفق الإستثمار الأخضر ضمن خطة التعافي المالي للحكومة اللبنانية. يُمكن استخدام المساعدة الدولية المُقَدَّمة إلى لبنان وجزء من مخصصات حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي كمصدرٍ لتمويل مرفق الإستثمار الأخضر، إلى جانب الإشراف الدولي، ويجب إعطاء الأولوية لتوفير الكهرباء من خلال المنح والقروض للقطاعات الإنتاجية والبلديات. إذا تم توفير ضمانات التمويل، فيمكن أن يستفيد مرفق الإستثمار الأخضر من أموالٍ إضافية من القطاع الخاص.
- تطوير آليات تمويل خلّاقة ومُبتَكَرة وحَوكمة محلية وشاملة. ينبغي النظر أيضاً إلى حلول تمويل مُبتَكَرة، مثل إشراك المغتربين وبناء تعاونيات للطاقة الشمسية. في الحالة الأخيرة، سيحصل مواطنو المدينة/البلدة على حصصٍ مُحَدَّدة من النظام الشمسي وتلقّي كهرباء مُوَلَّدة مُتماثلة. قروضُ الطاقة المتجددة هي آلية أخرى؛ تُشكّل هذه شهادات قابلة للتداول والتي يمكن بيعها للشركات والمستهلكين الذين لديهم التزامات تتعلّق بالطاقة المتجددة أو إزالة الكربون. يُمكن أن يكون الحل الآخر هو تطوير صندوق “طاقة للتجارة” حيث يتم توجيه جزء من تمويل الجهات المانحة لمشاريع التنمية نحو نشر أنظمة الطاقة المتجددة في المنشآت ذات الإمكانات التصديرية العالية، بما فيها الصناعة والزراعة.
- إلغاء الدعم لأعلى المستهلكين. إن إلغاء الدعم لجميع المستهلكين بدون حلٍّ مالي، وضخ العملات الأجنبية في السوق، والتحويلات النقدية الشفّافة للفئات الضعيفة لن يؤدي إلّا إلى مزيد من انخفاض قيمة الليرة اللبنانية، ما يعني أن غالبية الناس لن تكون قادرة على تحمّل تكاليف الكهرباء. ومع ذلك، فإن التوفير العادل لخدمات الكهرباء وتقليل الاستهلاك المهدور يتطلبان البدء في عملية إعادة هيكلة التعرفة من خلال إلغاء الدعم المُقدَّم إلى أعلى المستهلكين.
الواقع أنه ليس هناك حلٌّ سحري. لن يزدهر قطاع الطاقة بدون مسؤولين أكفّاء ليست لديهم مصالح راسخة في النظام ومستعدون لتنفيذ إصلاحات جادة. اللاعبون المُهيمنون الحاليون يجعلون تحقيق ذلك شبه مستحيل في المدى القصير. ومع ذلك، فإن تشغيل الأحمال الحرجة على الفور من خلال تدابير تتجاوز الاختناقات والزواريب التي أوجدها هؤلاء المسؤولون يجب أن يكون محور التركيز الرئيس للمواطنين وأي مساعدة خارجية للبنان.
- جيسيكا عبيد هي مستشارة مستقلة في سياسة الطاقة تقدم المشورة للمنظمات الدولية والحكومات بشأن تحويل الكهرباء والطاقة. بالإضافة إلى ذلك، فهي تعمل كمستشارة عالمية لشركة الاستشارات “آزور استراتيجي” (Azure Strategy) ومقرها لندن. وهي باحثة غير مُقيمة في برامج لبنان والاقتصاد والطاقة في معهد الشرق الأوسط. وزميلة أكاديمية في برنامج الطاقة والبيئة والموارد في “تشاتام هاوس”؛ وزميلة غير مقيمة في المركز اللبناني للدراسات السياسية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.