لبنان دَولةٌ فاشلة، متى سَيَتَدَخّل العالم؟

لم تُكرِّس أيّ قوّة غربية، باستثناء فرنسا، الاهتمام اللازم الذي يستحقه الوضع في لبنان. حان الوقت لتدخّل القوى العالمية الأخرى.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع القادة اللبنانيين: إستثمر فيهم كثيراً من دون نتيجة!

السفير ماركو كارنيلوس*

من الناحية التقنية، لبنان فعلياً دولة فاشلة. أعلن البنك الدولي إن الأزمة الاقتصادية في البلاد قد تكون من بين أكبر ثلاث أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. لكن هناك دائماً المزيد من السقوط، ويبدو أن لبنان يتّجه مُسرِعاً إلى هناك.

إهتمامُ وسائل الإعلام الدولية آخذٌ في الازدياد. خصّصت “نيويورك تايمز” مقالتين للبنان في ثلاثة أيام، و”فايننشال تايمز” ثلاث مقالات في أقل من أسبوعين، و”لوموند” و”ليبِيراسيون” تُركّزان باستمرار على البلد. من غير المؤكد ما إذا كان هذا الاهتمام سيدفع أصحاب المصلحة الدوليين في لبنان، بما في ذلك إيران، إلى التحرّك قبل فوات الأوان.

ومن المؤكد أنها لم تدفع الحركات السياسية اللبنانية إلى التخلي عن سلطتها وحق الفيتو والتعطيل بالنسبة إلى تشكيل حكومة جديدة، بعد أن أدّى انفجار ميناء بيروت في آب (أغسطس) الفائت إلى استقالة الحكومة التي يرأسها الدكتور حسّان دياب. كما أنها لم تفعل أيّ شيء لتغيير نظام الكليبتوقراطية (نظام اللصوص) الذي جعل الأمة تركع على ركبتيها. تم قمع الاحتجاجات على الفساد والاقتصاد المُنهار، ومظاهرات أولئك الذين يسعون إلى تحقيق العدالة في الانفجار.

شيءٌ واحد مؤكّد: إن الحكومة الجديدة لا يُمكن أن يقودها مرة أخرى سعد الحريري، الذي حاول كرئيس وزراء مُكَلَّف على مدى تسعة أشهر تشكيل حكومة جديدة من دون نجاح. الحريري، رئيس الكتلة السنية الأكبر، ومعه قادة آخرون وحاكم المصرف المركزي، من المسؤولين الرئيسيين عن فشل وانهيار لبنان. يوم الخميس الفائت، أعلن استقالته – وهو النبأ الإيجابي الوحيد الذي جاء من البلاد منذ شهور.

لكن النُخَب السياسية في لبنان صعبة ومنيعة على التغيير مثل الغرانيت. الطريقة الوحيدة لإجبارهم على تحرير ورفع قبضتهم على البلاد هي معاقبتهم. لكن العقوبات الوحيدة حتى الآن هي عقوبات أميركية تستهدف “حزب الله” وجبران باسيل الذي يقود “التيار الوطني الحر”. بقي كلّ شخصٍ مسؤولٍ آخر على حاله من دون عقاب لسببٍ غير مفهوم.

إتبع المال

هذا ليس علم صواريخ. للوصول إلى الفاسدين، عليك أن تَتَتّبَّع أموالهم. باستثناء قيادة “حزب الله”، فإن جميع القادة السياسيين اللبنانيين الكبار الآخرين لديهم أصول وحسابات مصرفية في الغرب. وتعرف وزارات المال في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وسويسرا مكانها؛ لديها أرقام الحسابات المصرفية. ومن شأن استهدافهم أن يُوفّر نفوذاً حقيقياً على سماسرة السلطة المتمرّدين الفاسدين في لبنان.

ببطء، الأشياء تتحرّك. فُتِحَت تحقيقات في فرنسا وسويسرا عن رياض سلامة، حاكم المصرف المركزي. تُركّز هذه التحقيقات على معرفة المكان الذي وَضَعَ فيه الأموال من مخطط بونزي عملاق مزعوم والذي أدى بالبلاد إلى الإفلاس.

وافق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في الأسبوع الفائت على “نظام عقوبات” للزعماء الذين أشرفوا على الجمود الذي دام 11 شهراً في تشكيل الحكومة. قالوا إنهم يريدون تفعيل نظام العقوبات بحلول نهاية الشهر، وهو سريع وفقاً لمعاييرهم.

هل يكفي هذا لوقف القنبلة الموقوتة في لبنان؟ هل من الممكن حتى إنقاذ لبنان من خلال محاصرة قادته السياسيين ووقف تدفق الأموال الهاربة من البلاد؟ أم أنه من الأفضل انتظار الانهيار الكامل باعتباره السبيل الوحيد لقتل سرطان طبقتها السياسية الفاسدة – بمعنى آخر، البدء من الصفر؟

هذه معضلة تُثير تساؤلات مشروعة حول نهاية لعبة الغرب في لبنان. حتى الآن، كان عَرضاً فردياً: منذ انفجار بيروت، إستثمر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رأس مال سياسي كبير في محاولة الترويج لتشكيل حكومة جديدة وإجراء إصلاحات ضرورية، ولكن دون جدوى.

لفترة طويلة، وضعت فرنسا بيضها في سلّة الحريري على أمل أن يجد حلاً من خلال البرلمان. ولكن في حين أن هذه الطريقة صحيحة رسمياً وقانونياً، إلّا أنها عفا عليها الزمن وغير واقعية. يبدو أن المسؤولين الفرنسيين غير مُدركين أن الوضع قد تدهور إلى حد كبير، وأن المصالح الخاصة للكتل السياسية قد ترسّخت بشكل عميق، بحيث لا يوجد حلٌّ مؤسّسي قابل للتنفيذ – باستثناء السماح للكواسر السياسية اللبنانية بمواصلة مأدبتها.

عواقب الإنهيار

لبنان في طريقٍ مسدود. يجب أن تُنتِج الانتخابات الجديدة، المُقرّر إجراؤها في العام 2022 بشكلٍ مثالي، قوى سياسية جديدة، لكن القانون الانتخابي الحالي لن يُوفّر هذه الفرصة، ولن يوافق البرلمان الحالي على قانونٍ جديد أبداً، والذي سيكون الطريقة الوحيدة لتغيير الديناميكيات السياسية التي أبقت السلطة في يد الطبقة الفاسدة السائدة. فقط التعبئة الشعبية التي يتم تشجيعها ودعمها من الخارج يُمكن أن تُحدِث فرقاً.

على هامش اجتماع مجموعة العشرين الأخير، عقدت فرنسا والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية مشاورات غير رسمية بشأن لبنان، لكن لم تظهر أي تفاصيل. من الممكن أن تكون باريس، المُحبَطة بسبب غياب النتائج، قد حاولت تنسيق سياسة أوسع وأكثر فاعلية. المعلومات التي تم تسريبها حتى الآن تشير إلى أن الدول الثلاث كانت مُتشكّكة في قدرة الحريري على تعزيز التغيير الضروري؛ لقد فقدت الثقة به.

ومع ذلك، فإن مثل هذه الشكوك لم تدفعها إلى البحث عن بدائل صادقة وغير منقوصة حتى الآن. إن تقديم الكتلة السنّية، التي لها الحق في رئاسة الوزراء، وجوهاً جديدة مُستقلّة وكفوءة غير مُشاركة في الحكومات السابقة سيكون خطوة أولى رئيسة نحو تغيير حقيقي. دعونا نأمل أن يُوفّر تنحّي الحريري هذه الفرصة في النهاية.

في حين أنه قد يكون من المُغري انتظار الانهيار التام، فلا أحد يستطيع التنبؤ بالعواقب. يُمكن أن ينهار الجيش اللبناني أيضاً، و”حزب الله” هو الكيان الوحيد الذي يمكنه السيطرة. قد ينتهي الأمر بالبلاد إلى انقسامٍ بين طوائفها الرئيسة، أو الأسوأ من ذلك، أن تنحدر مرة أخرى إلى حربٍ أهلية.

كما أن التأثيرات على جيران لبنان ستكون غير مُتَوَقَّعة، لا سيما على إسرائيل، وقد يدفع هذا الأمر موجةً جديدة من “قوارب الناس الفارين” نحو أوروبا. بعض الدول الغربية أو الإقليمية التي تحلم بفوضى إبداعية من الأفضل التفكير في كل هذه العواقب المُحتَمَلة.

حان وقت الاختبار

لم تُكرّس أي قوة غربية، باستثناء فرنسا، حتى الآن الإهتمام اللازم الذي يستحقّه الوضع في لبنان – لا سيما إيطاليا، التي لديها الكثير على المحك في البلاد من حيث التجارة، ومع فرقتها المُنتشرة مع بعثة الأمم المتحدة في لبنان (اليونيفيل). لقد كانت مجموعة الدول السبع، على وجه الخصوص، مُخَيِّبة للآمال.

في واشنطن، لا يزال نهج الإدارة الجديدة تجاه لبنان مُؤَطَّراً بحملةٍ لمكافحة الإرهاب تُركّز على “حزب الله”. في حين أن هذا الأخير هو بالتأكيد جزءٌ كبير من القضية اللبنانية، ويحمي شركاءه الكليبتوقراطيين (اللصوص) في الحكومة، فلا يتعيَّن التركيز على “حزب الله” للتعامل مع شركائه.

قد يتضمّن الاختبار الجاد الأول لعزم المجتمع الدولي على حلّ مشكلة لبنان عقد جلسة خاصة لمجلس الأمن الدولي. وهذا يمكن أن يؤكد ما إذا كان الأعضاء الدائمون في المجلس يوافقون على أن انهيار لبنان سيُشكّل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، وبالتالي يتبنّون قراراً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. في مثل هذه الحالة، ستكون الموافقة على العقوبات ضد القادة اللبنانيين الكليبتوقراطيين أسرع وأكثر فاعلية بكثير.

الولايات المتحدة أعلنت مرة أخرى التزامها المُتجدّد بالتعدّدية. حان الوقت لاختبار ذلك، ولإجبار روسيا والصين على تحمّل المسؤولية في الشرق الأوسط.

  • السفير ماركو كارنيلوس هو ديبلوماسي إيطالي سابق. عمل في الصومال وأوستراليا والأمم المتحدة. وقد خدم في فريق السياسة الخارجية لثلاثة رؤساء حكومة إيطاليين بين العامين 1995 و2011. وشغل أخيراً منصب المبعوث الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط إلى سوريا للحكومة الإيطالية، وحتى تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، سفيراً لإيطاليا في العراق. الآراء الواردة في هذا المقال تُمثل الكاتب.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى