مطرُودون… مكرُوهون… ساقطُون حُكْمًا

هنري زغيب*

لا أَذكر في عمري فترةً صبَّ فيها الشعب سُخطه على السُلطة في لبنان كما هذه الفترة.

فما اجتمعَ اثنان في البلاد على حديثٍ إِلَّا وكان ثالثَهما غضبٌ يَجلُد هذه السُلطةَ وأَركانَها، بعدما انكشَف فشَلُها وتآمُرُها وفسادُها وإِجرامُها بإِيصال البلاد إِلى العَوَز الحادّ والفجيعة الاجتماعية والرُعب الاقتصادي والخوف المالي وهاجس الجوع والفقر والذل والسقوط في المجهول. وما انعَقَد لقاءٌ عربيٌّ أَو غربيٌّ إِلَّا وعى أَن مصير لبنان انتهى إِلى ما هو عليه بسبب سياسيين فيه ساسُوه إِلى هذا المصير الأَسْوَد. ومع ذلك، مع كلِّ ذلك، لم يعترفوا بعد أَنهم مطرُودون من كلِّ صوب. من شعبهم مطرُودون. من سياسيي العالم مطرُودون. من الڤاتيكان مطرُودون. ولم يَنْجُ أَحدٌ بينهم من اللوم والغضب: من رُؤُوس السُلطة حتى أَخمص أَزلامها التافهين ومحاسيبها المصفِّقين ومُعَيِّشيها ومهيِّصيها المزيَّفين الوُصُوليين.

مطرُودون ومكرُوهون. وليس أَدلَّ على ذلك من انقلاب المشهد: بعدما كانوا يستكْبرون ويظْهَرون متعجْرِفين بمواكبهم ومرافقيهم وعناترهم وصَلَفِهم وعَجْرفتِهم على كلِّ الناس، باتوا اليوم لا يَجرُؤُون على الظُهور بين الناس في أَيٍّ من الأَماكن العامة فيظلُّون في جُحورهم خائفين مرعوبين من مواجهة حتى ناخبيهم بعدما ناخبوهم يترصَّدونهم من اليوم حتى يوم الانتخاب.

مع ذلك ما زالوا رابِخِين في مقاعدهم، يجتمعُون ولا يُقْنِعُون، يقرِّرون ولا يُقْنِعُون، يُنَظِّرون ولا يُقْنِعون، يَشْهدون على تَفَكُّك المؤَسسات ولا يُشاهدون، يتلقَّون الشتائم والغضب ويحيلُونها إِلى السوى، ويَحيلون كلَّ مسؤُولية وتُهمةٍ إِلى السوى ليرفعوا عنهم المسؤُولية، ولا يُقْنِعون أَحدًا لأَنَّ شمسَ الحقيقة ساطعةٌ على اقترافاتهم الجُرمية في حقِّ شعبٍ كاملٍ بات يَكْرَهُهُم ويَحتَقِرُهم بالصوت العالي.

لم يَبْقَ مسؤُول عربيٌّ أَو غربيٌّ إِلَّا وقَذَفَهُم باحتقارِهِ سُلُوكَهم واتهامِهم بِجَرِّ بلادهم إِلى أَحطِّ درَجات السُقُوط.

حتى الڤاتيكان لم يُوَفِّرهم فنادى البابا فرنسيس شعبَ لبنان أَلَّا يَيْأَس، وأَن يَبحثَ في جُذُور تاريخه عن الرَجاء. لم يَدْعُ البابا الشعبَ أَن يَسأَلَ حُكَّامَه لأَنه يَعرِف، كما الكُلُّ في الداخل والخارج يَعرِف، أَنَّ حُكَّامه أُمِّيُّون في تاريخ وطنِهم العريق، وجذورِ وطنهم المشرِّفة، وسطوعِ تراثهم التاريخي والإِبداعي، ولأَن الڤاتيكان يَعرِف، كما الكُلُّ في الداخل والخارج يَعرِف، أَنهم لا يَعرِفون إِلَّا مصالحهم الشخصية وتَطَلُّعاتهم الانتخابية ومستقبلَ نَسلهم في الحكم. ولذا يَعرِف الكُلُّ، في الداخل والخارج يَعرِف، أَنْ لا أَملَ يُرجى من هذه الطبَقة الحاكمة، ولن يَنجو لبنانُ من سقوطه إِلَّا يومَ يتخلَّص منهم، وسوف يتخلَّص حين شعبُه سيُحاربهم قريبًا بسلاحٍ ضئيلٍ حادٍّ، صغيرٍ حادٍّ، بحجْم كَفِّ اليد، في شكل قُصاصةٍ صغيرة يُسْقِطُها في صندوقة الاقتراع، كي يقترعَ لجيلٍ جديدٍ من طبقةٍ جديدةٍ نقيَّةٍ وجديدةِ، طالعةٍ من قلْب القهر على ما كان إِلى رجاءِ ما سيكون، وسوف يكون.

ويعرف شعبُنا، يعرف جيِّدًا، أَنْ سيَبقى في صُفوفه أَغناميُّون مستفيدُون وُصُوليُّون تابعُون يُسقِطون الأَسماءَ ذاتها يوم الانتخاب. لكنَّ تغييرَ الدُوَل لا يكون بين صبْحٍ ومساء، بل لا بُدَّ من جيلٍ بعد جيلٍ، وكلُّ جيلٍ يُنَقِّي طريقَه من حُثالةِ جيلٍ فاسدٍ سابقٍ، حتى يكونَ جيلٌ لبنانيٌّ نقيٌّ لا يَعودُ فيه إِلَّا المؤْمنون بلبنان اللبناني، وطنًا يعتزُّ به أَبناؤُهُ، يعتَزُّ به العربُ والغرب، ويعتَزُّ به الڤاتيكان فيرفعُ الصلاةَ من أَجل شعبِه، كلِّ شعبِه، إِلى أُعجوبة لبنانية خالدة لا تُفَرِّقُ بين مُسْلميه ومَسيحيِّيه، يتطلَّعون معًا برجاءٍ واحدٍ وسُموٍّ واحدٍ إِلى الوطن/الرسالة، وطنِ الشُرَفاء والأَنقياء، أَن تَرتفعَ صورتُهُ ساطعةً من قمَّة روما إِلى قمَّة الأَرز إِلى كل قمَّة في لبنان، ومنها إِلى كل قامة من قامات لبنانَ الخالدة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى