اليابان: قضيّة كارلوس غصن والقضاءُ المَعصوم

على الرغم من تقدّم اليابان وتطوّرها في مَجالَي السياسة والإقتصاد حيث تتمتع بنظام ديموقراطي مُتَميّز، لا يزال نظامها القضائي متأخّراً   ولا يُناسب ما تدّعي به من حرية وعدالة ومساواة، وقضية كارلوس غصن هي مثالٌ مهم على ذلك.

القضاء الياباني: معصوم من الخطأ!

السفير يوسف صدقة*

كشفت قضية احتجاز الرئيس السابق  لشركة “رينو – نيسان”، كارلوس غصن، هزالة النظام القضائي الياباني، وتماهيه مع أنظمة دول العالم الثالث، حيث يُمثّل القضاءُ الخَصمَ والحَكَم في بلد يعتدّ حكّامه بانتمائهم إلى الأنظمة الديموقراطية الغربية، وهم يقدسّون قضاءهم “كسلطة معصومة”.

لقد أوقف غصن، في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، على مدرج مطار طوكيو، واحتُجِزَ لأشهرٍ عدة، ثم أُفرِجَ عنه بكفالة مالية ووُضِعَ بالإقامة الجبرية مع منعه من مغادرة البلاد، بانتظار محاكمته لشبهات اختلاس، من شركة “نيسان”، بانتظار بدء محاكمته في نيسان (إبريل) 2020.

في أواخر العام 2019 فرَّ غصن من اليابان في ” عملية هوليوودية ” تُحاكي قصص “جيمس بوند”، حيث أكد بعدها أنه لم يهرب من العدالة، إنما اضطر للهروب، بسبب عدم وجود قضاء عادل يحمي المُدَّعى عليه في النظام القضائي الياباني.

واعتبر انه خضع لعملية اغتيال شخصية قادتها “نيسان” بالتواطؤ مع الحكومة اليابانية بمساعدة شركاء في فرنسا. وقد أشارت وكالة “بلومبورغ” الأميركية إلى أن الوثائق تُظهر أن إطاحة غصن كانت نتيجة عملية مُدَبَّرة قام بها كبار المسؤولين في شركة “نيسان” يتقدمهم هاري فرا، مدير مكتب الرئيس التنفيذي للشركة. كما ذكرت صحيفة “فايننشال تايمز” بأن غصن أصبح رقماً صعباً في شركة “نيسان” بحيث يتعذّر الاستغناء عنه. وتجدر الاشارة الى أن غصن كان وراء نجاح شركة “رينو – نيسان” وصعودها إلى  قمّة صناعة السيارات في العالم.

على أثر هروب غصن، طلبت اليابان من الأنتربول الدولي ملاحقة المُتَّهم وتسليمه عبر رسالة وجهتها الى وزير العدل اللبناني السابق ألبرت سرحان، أي مذكرة “النشرة الحمراء”: وهو طلبٌ يرفعه الأنتربول إلى الأجهزة القضائية في دولة ما لتحديد مكان أحد المطلوبين، وتوقيفه وتسليمه الى البلد الذي طلب توقيفه. ولم يتم توقيف غصن في لبنان بسبب عدم وجود اتفاقية قضائية لتبادل المجرمين بين لبنان واليابان.

أدّت قضية كارلوس غصن الى توتّر العلاقات اللبنانية-اليابانية. ولدى زيارة مساعد وزير الخارجية الياباني الى لبنان لبحث قضية تسليم غصن إلى السلطات اليابانية، تمّ تسليم المسؤول الياباني ملفاً كاملاً من مراسلات رسمية للبنان طالبت فيها وزارة الخارجية اللبنانية بتحسين أحوال المُتَّهم غصن في سجن “كوسوغ” في طوكيو، ولكن الخارجية اليابانية لم تجب على المذكرات اللبنانية، وهذا التصرّف يُعتَبر مُناقضاً للأعراف الديبلوماسية بين الدول.

وكان غصن سُجِنَ في الحبس  الانفرادي لأشهرٍ من دون السماح له بالتحدث مع زوجته إلّا مرات قليلة، وكانت الأضواء مُسَلّطة عليه في السجن ليل نهار، بحيث أصبح سجن طوكيو يُحاكي السجون في الأنظمة الديكتاتورية والشمولية، بينما تدّعي اليابان أنها تنتمي الى الأنظمة الغربية الديموقراطية الليبرالية.

وأفاد غصن بأنه استُجوِبَ من قبل مساعد قضائي ياباني لا يتكلّم إلّا اليابانية، والذي طلب منه التوقيع على أوراقٍ باللغة اليابانية. وقد تدخّل السفير اللبناني في اليابان مرات عدة لتأمين فراش، وبعض الاشياء البسيطة، ودخل في مناوشات مع سلطات سجن طوكيو، لتحسين وضع غصن من دون الدخول في صلب التحقيق والمحاكمة.

نظام الحكم في اليابان

تتمتع اليابان بنظامِ حُكمٍ ملكي دستوري برلماني. فالحكم والسيادة في البلد هي في يد الشعب، والرفض الكلي للحروب والنزاعات، واحترام حقوق الانسان السياسية والدولية. كما نص الدستور الياباني على الفصل بين اللسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.

أما على صعيد السلطة القضائية، فالمحكمة العليا تناط بها السلطة الأعلى في القضاء. وهناك محاكم دنيا في الدولة، وهي محاكم المقاطعات ومحاكم الأُسرة والمحاكم الجزائية. يتم تعيين رئيس المحكمة العليا من قبل الإمبراطور، اما قضاة المحكمة العليا فيتم تعيينهم من قبل مجلس الوزراء. ويحاكي النظام القضائي الياباني الأنظمة الشمولية، حيث يسمح باحتجاز المشتبه لفترات طويلة قبل بدء المحاكمة، وهي أداة لانتزاع الاعترافات، حيث تُجرى التحقيقات من دون وجود محامٍ إلى جانب المُتّهم .

ويفتخر القضاء الياباني أن 94% من القضايا في المحاكمات تربحها النيابة العامة، ما يعني ان المحكمة تُصدّق على الاتهامات التي توجّهها النيابة العامة من دون مناقشة دعوى الاتهام إلّا بصورةٍ عابرة.

والسؤال هنا: ما الداعي من إنشاء المحاكم الفولكلورية ما دامت النيابة العامة تُوجّه أحكام المحاكم بدون مراجعة؟ مما يتّضح أن الفرصة لمحاكمة عادلة في اليابان لأجنبي تكاد تكون معدومة.

محاكمة كارلوس غصن

تبيّن من متابعة قضية كارلوس غصن، بغضّ النظر عن صحة الاتهامات المُوَجَّهة ضده، وعن مسؤوليته المباشرة أو عن براءته، أن لبنان هو البلد الوحيد، الذي ساعده، ولم يتجاوب مع المطالب اليابانية باسترداده لقناعة السلطة القضائية اللبنانية بأنه لم تتوفّر لغصن ظروف سليمة وعادلة للدفاع عن نفسه في ظل نظام قضائي ياباني لا يحترم الحقوق الأساسية للمُتَّهم، فالنائب العام هو القاضي المعصوم  في بلد الإمبراطور المعصوم.

والغريب أن فرنسا والتي يحمل غصن جنسيتها، وكان يرأس شركة “رينو”، لم تتدخّل مع اليابان لتحسين ظروف سجنه.

والسؤال المطروح لو ان غصن كان فرنسي الأصول (GAULOIS) هل كانت السلطة الفرنسية سمحت لليابان بالتمادي في إذلاله؟ ولنا شواهد من سجينتين فرنسيتين سابقتين في المكسيك وكولومبيا، حيث سخّرت الدولة الفرنسية كل امكاناتها للإفراج عنهما.

والسؤال الأكثر إلحاحاً: كيف تتغاضى الدول الغربية، والتي تفاخر بأنظمتها الديموقراطية، عن النظام القضائي الياباني الذي يُحاكي القضاء في الأنظمة الشمولية والديكتاتورية.

وهذا ما يؤكد ان المصالح المشتركة هي التي تسمح في طيّ صفحة حقوق الإنسان الاساسية في اليابان. والإشكالية المطروحة تتجاوز اليابان إلى بلدان غربية أخرى تدّعي انتهاج النظام الديموقراطي، وقد تطبق العدالة على مواطنيها وتستثني الأجانب من تأمين العدالة المطلوبة على ارضها.

ومن المفارقات الايجابية في قضية غصن أن محاكمته كشفت زيف العدالة القضائية في اليابان، بغض النظر عن الاتهامات المنسوبة إليه، وخرجت الحقيقة المرة من الستار الحديدي الياباني، لعلّ السلطة اليابانية تراجع نظامها القضائي المُتَخلّف، لتوائم تقدّمها السياسي والاقتصادي الهائل في النطاق الأسيوي والعالمي، مع تطبيق مفاهيم العدالة والتخلّي عن مفهوم القضاء المعصوم.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني متقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى