نظامُ إيران للفوضى: كيفَ تُعيدُ الجمهوريةُ الإسلامية تشكيلَ الشَرقِ الأوسط؟

يَستَغلُّ القادةُ الإيرانيون الحرب في غزة ويُصَعّدونها لرَفعِ مكانةِ نظامهم، وإضعافِ إسرائيل ونَزعِ شرعيتها، وتقويضِ المصالح الأميركية، ومواصلةِ تشكيلِ النظامِ الإقليمي لصالحهم.

السيد حسن نصرالله: بيضة القبان لإيران في صراعها مع إسرائيل، ولكن…

سوزان مالوني*

أدّت الحربُ بين إسرائيل و”حماس” -واحتمال أن تنفجرَ أكثر وتتحوّلَ إلى حريقٍ أوسع نطاقًا- إلى قلبِ الجهودِ الحثيثة التي بذلها ثلاثةُ رؤساءٍ أميركيين لتحويل الموارد الأميركية والتركيز بعيدًا من الشرق الأوسط. مُباشَرةً بعد هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، تحرّكَ الرئيس الأميركي جو بايدن بسرعةٍ لدَعمِ إسرائيل، الحليف المُهِمّ للولايات المتحدة، ورَدعِ توسُّعِ الأعمال العدائية. لكن حتى كتابة هذه السطور، أصبحَ الصراعُ في طريقٍ جُهنَّميٍّ مَسدود. إنَّ الضرورات الأمنية التي تُحرِّكُ الحربَ تحظى بتأييدٍ واسعِ النطاق بين الجمهور الإسرائيلي، إلّا أنَّ أشهرًا من العمليات الإسرائيلية المُكثّفة فشلت في القضاءِ على “حماس”، وقتلت عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، وعجّلت بحدوثِ كارثةٍ إنسانيةٍ في قطاعِ غزة. ومع اتِّساعِ نطاقِ الأزمة، اتَّسَعَت أيضًا ارتباطاتُ أميركا في الشرق الأوسط. في الأشهر التي تلت 7 تشرين الأول (أكتوبر)، سَلَّمَت واشنطن شحناتِ المساعدات إلى سكان غزة المُحاصَرين، وشنّت عملياتٍ عسكرية لحماية العبور البحري، وعملت على احتواء ميليشيا “حزب الله” الشيعية اللبنانية، وسعت إلى إضعافِ قدرات الميليشيات التخريبية الأخرى من العراق إلى اليمن، واتّبعت مبادراتٍ ديبلوماسية طموحة لتعزيزِ تطبيعِ العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية.

إنَّ إعادةَ التعامُلِ مع الشرق الأوسط تُمثّلُ مخاطرَ بالنسبة إلى بايدن، خصوصًا أنه يقومُ بحملاتٍ لإعادة انتخابه ضدّ سلفه دونالد ترامب، الذي كانت انتقاداته للتكاليف البشرية والاقتصادية لحروب أميركا في العراق وأفغانستان وجدت صدى لدى الناخبين وعزّزت حملته الرئاسية في العام 2016. في استطلاعٍ للرأي أجرته جامعة “كوينيبياك” بعد ثلاثة أسابيع من هجوم “حماس”، أعرب 84% من الأميركيين عن قلقهم من إمكانيةِ استدراجِ الولايات المتحدة إلى تدخّلٍ عسكريٍّ مُباشِر في صراعِ الشرق الأوسط، ووافَقَ واحدٌ فقط من كلِّ خمسةِ مشاركين في استطلاعٍ أجراه مركز “بيو” للأبحاث في شباط (فبراير) 2024 على أنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تقومَ بدفعةٍ ديبلوماسية “كبيرة” لإنهاء الحرب بين إسرائيل و”حماس”. لكنَّ المخاطرَ التي يَفرُضُها ويؤدي إليها التردّدُ هي أعظم. هناكَ جهةٌ فاعلة إقليمية تَستَفيدُ بشكلٍ خاص من تردّد واشنطن أو انسحابها: جمهورية إيران الإسلامية. في الواقع، يُمثّلُ المستنقعُ في الشرق الأوسط فُرصةً لتحقيقِ انفراجةٍ في استراتيجيةِ طهران التي استمرّت أربعة عقود لإضعافِ أحد أبرز خصومها الإقليميين، إسرائيل – ولإذلال الولايات المتحدة وتَقليصِ نفوذها في المنطقة بشكلٍ كبير.

كانَ النظامُ الإسلامي في إيران يهدفُ إلى إلهامِ إنتفاضات دينية مُقَلِّدة بعد ثورة العام 1979، وربما يبدو في نظرِ العديد من المراقبين أنه قد فشل. الحقيقة أنَّ الحكمة التقليدية في واشنطن وأماكن أخرى كثيرًا ما تؤكّد أنَّ إيران أصبحت تحت الاحتواء، بل وحتى معزولة. لكن هذا لم يكن صحيحًا أبدًا. بدلًا من ذلك، طوّرت طهران استراتيجيةً محسوبةً لتمكين الميليشيات الوكيلة وعمليات التأثير في جوارها مع الحفاظ على قدر معقول من الإنكار – وهو مخطط أثبت ذكاءه من خلال النطاق المُدمّر لهجومِ “حماس” والهجمات اللاحقة التي شنّتها الميليشيات التابعة لإيران في العراق ولبنان وسوريا واليمن.

إنَّ المشهدَ الاستراتيجي في الشرق الأوسط في مرحلةِ ما بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) هو مشهدٌ أنشأته إيران إلى حدٍّ كبير، وهو يلعبُ لصالح نقاط قوّتها. ترى طهران فُرصةً في الفوضى. يستغلُّ القادةُ الإيرانيون الحرب في غزة ويُصَعّدونها لرَفعِ مكانةِ نظامهم، وإضعافِ إسرائيل ونَزعِ شرعيتها، وتقويضِ المصالح الأميركية، ومواصلة تشكيل النظام الإقليمي لصالحهم. والحقيقة هي أنَّ الجمهورية الإسلامية أصبحت الآن في وَضعٍ أفضل من أيِّ وقت مضى للسيطرة على الشرق الأوسط، بما في ذلك من خلال اكتساب القدرة على تعطيل الشحن في العديد من نقاط الاختناق والمضائق الحرجة.

إذا لم يتم التصدّي للتوسّع الدراماتيكي في نفوذ إيران، فمن شأنه أن يُخلّفَ تأثيرًا كارثيًا على إسرائيل، والمنطقة الأوسع، والاقتصاد العالمي. لتعطيلِ هذا التضخيم للقوّة الإيرانية، يحتاج بايدن بشكلٍ عاجلٍ إلى صياغةِ استراتيجيةٍ واضحةٍ ثم تنفيذها لحماية المدنيين الفلسطينيين من تحمّلِ وطأةِ العمليات العسكرية الإسرائيلية، ومواجهة استراتيجية الحرب بالوكالة الإيرانية المُسبِّبة للتآكل، وإضعاف قدرات شركاء طهران. سيتطلّبُ تحقيقُ هذه الأهداف مجموعةً صعبة من التحرّكاتِ من جانبِ واشنطن، وقد سَئمَ الأميركيون من الخسائر العسكرية والاقتصادية والبشرية الناجمة عن التزاماتِ بلادهم في الشرق الأوسط. ولكن لا توجَدُ قوةٌ عالمية غير الولايات المتحدة تمتلك القدرات العسكرية والديبلوماسية اللازمة لإحباطِ طموحات إيران الأكثر تدميرًا من خلال إدارةِ الصراعِ المُتصاعِدِ بين إسرائيل و”حماس” واحتواء العواقب الأكثر تدميرًا في المدى الطويل.

نظرية الفوضى

مُنذُ سيطرة “حماس” على غزة في العام 2007، عملت إيران كراعٍ رئيس للجماعة. عرضت طهران الأموال والعتاد وغير ذلك من أشكال الدعم التي جعلت هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) مُمكِنًا، بما في ذلك التقنيات العسكرية والاستخبارات وما يصل إلى 300 مليون دولار سنويًا من المساعدات المالية. وقد قدّمت طائراتٍ مُسَيّرة وصواريخ بالإضافة إلى البنية التحتية والتدريب لمساعدة “حماس” على بناء أسلحتها الخاصة، وهي الأسلحة التي استخدمتها لمواصلة ضرب إسرائيل لأشهرٍ عدة بعد الهجوم الأوَّلي.

بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، سارعت الميليشيات المدعومة من إيران إلى تكثيف أنشطتها العدائية التي تستهدفُ القوات الإسرائيلية والأميركية في المنطقة. وتسبّبت هذه الاعتداءات في سقوطِ أكثر من مئة ضحية بين أفراد الخدمة الأميركية. هاجَمَ الحوثيون، الجماعة المسلحة المدعومة من إيران والتي تحكم معظم سكان اليمن، السفنَ المُبحِرة في البحر الأحمر، ما أدّى إلى انخفاضِ العبور عبر قناة السويس بنسبة 50 في المئة في الشهرَين الأوَّلَين من العام 2024. وفقًا لشهادة رئيس القيادة المركزية الأميركية الجنرال مايكل كوريلا أمام الكونغرس في آذار (مارس)، أدّى تصاعدُ الضربات التي شنّها حلفاء إيران وما تلاها من ردودٍ عسكرية أميركية إلى تشجيع المنظمات الإرهابية غير المُتحالفة مع طهران، ما أدّى إلى تصاعد الهجمات التي تشنّها مجموعات مثل تنظيم “الدولة الإسلامية”، المعروف أيضًا ب”داعش”.

اتخذت إيران أيضًا خطواتٍ واضحة لرفع مكانتها الديبلوماسية في أعقاب 7 تشرين الأول (أكتوبر). فبعدَ أيامٍ من هجوم “حماس”، تحدّث الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مباشرةً عبر الهاتف لأوّل مرة مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وفي تشرين الثاني (نوفمبر)، شاركَ في قمةٍ إقليمية (عربية-إسلامية) في الرياض، وهناكَ مسؤولون إيرانيون آخرون، مثل وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، يتردّدون في مختلف أنحاء المنطقة وخارجها، سعيًا إلى وضع بلادهم كوسيطٍ موثوق به حتى مع استمرار النظام في دعمه ل”حماس”.

لم تَكُن أيٌّ من هذه التطورات مجرّدَ نتيجةٍ لانفتاحِ إيران الجديد وسط الاضطرابات واتخاذها خطواتٍ انتهازية ومتهوّرة. إنها نتاجُ قواعد اللعبة التي تمَّ اختبارها عبر الزمن. منذُ نشأةِ الجمهورية الإسلامية، كانت القيادة الإيرانية تحملُ طموحاتٍ توسّعية. فمنذ العام 1979، نظرت البلاد إلى الفوضى والتقلّبات، سواءَ في الداخل أو في مكانٍ قريب، باعتبارها فرصةً لتعزيزِ مصالحها ونفوذها. وحتى غزو العراق لإيران في العام 1980 كانَ لصالحِ الثيوقراطية الوليدة من خلالِ حَشدِ الدعم الداخلي للنظامِ الجديد في طهران، وتوفير الفرصة لبناءِ صناعةِ دفاعٍ محلّية قوية، وتمكين النظام من البقاء على قيد الحياة في بداياته.

استَخدَمت طهران الحرائق المُتتالية في جوارها لتعزيزِ موقفها ووضعها. تاريخيًا، جاءَ بعضُ الفُرَصِ الأكثر قيمةً نتيجةً للأخطاء التي ارتكبتها واشنطن وشركاؤها في المنطقة، مثل الغزو الأميركي للعراق في العام 2003. وهذا الصراع، الذي جلبَ 150 ألف جندي أميركي إلى عتبة إيران، سرعانَ ما تحوّل لصالح طهران. فقد أُطيحَ بالرئيس العراقي صدّام حسين، الذي كان يُشكّلُ الخطر الأكبر الذي يُهدّدُ وجود القيادة الإيرانية، وحَلَّت محل نظامه دولةٌ ضعيفة يقودها شيعة ساخطون تربطهم علاقات وثيقة بطهران. وقد استفادت إيران إلى أقصى حد من لحظات الفوضى الإقليمية الأخرى في السنوات التي تلت ذلك. ابتداءً من العام 2013، عمل الحرس الثوري الإسلامي في البلاد مع وكيله الرئيسي، “حزب الله”، على حَشدِ ألويةٍ من الشيعة الأفغان والباكستانيين لتشكيلِ ميليشيا شيعية أكبر عابرة للحدود الوطنية للدفاع عن نظام بشار الأسد المُحاصَر في سوريا. وفي نهاية المطاف، قامت طهران ببناءِ شراكةٍ فعّالة مع روسيا خلال الحرب الأهلية السورية، والتي توسّعت إلى تعاونٍ استراتيجي أوسع بعد غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا.

كان أحدُ العناصر الرئيسة في استراتيجية إيران بالنسبة إلى جوارها يتلخّص في إنشاء “محور المقاومة”، وهو عبارةٌ عن شبكةٍ فضفاضة من الميليشيات الإقليمية ذات هياكل تنظيمية مُنفَصلة، ومصالح مُتَداخِلة، وعلاقات مع المؤسسات الأمنية والدينية في إيران. لقد أكّدَ مؤسّس الجمهورية الإسلامية الراحل، آية الله روح الله الخميني، أنَّ تصديرَ الثورة هو ضروريٌّ لبقائها، زاعمًا أنه إذا ظلت الثيوقراطية “في بيئةٍ مُغلَقة” فإنها “سوف تواجه الهزيمة بالتأكيد”. ومع تصميمِهِ على إثارةِ موجةٍ أوسع من الاضطرابات التي يقودها الإسلاميون ضد الملكيات والجمهوريات العلمانية في الشرق الأوسط، قام الخميني وأتباعه بتطوير بُنيةٍ تحتية مُخَصَّصة للإطاحة بالوضع الراهن في جميع أنحاء العالم الإسلامي. خلال العقدين الأوَّلين من وجود الجمهورية الإسلامية في السلطة، عمل قادتها مع مجموعاتٍ بالوكالة في الخليج العربي وأماكن أخرى للمساعدة في التحريض على محاولة انقلاب العام 1981 في البحرين، وتفجيرات السفارة الأميركية وغيرها من المصالح الأميركية في الكويت في العام 1983، ومحاولة اغتيال أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح في العام 1985، والمَسِيرات الحارِقة المُناهِضة للسعودية وأميركا خلال موسم الحج السنوي إلى مكة، وتفجير ثكنة عسكرية أميركية في المملكة العربية السعودية في العام 1996، وغيرها من الأعمال التخريبية ضد جيرانها.

الموجةُ الثورية التي كان الخميني يأمَلُ أن تحدث لم تتحقّق أبدًا. رُغمَ أنَّ توقّعات القادة الإيرانيين بحدوث ثورةٍ واسعة النطاق ضد النظام الإقليمي القائم خابت، إلّا أنهم وجدوا تطلّعاتهم مُبَرَّرة بظهورِ جماعاتٍ مُسلَّحة مُتعاطِفة تسعى إلى رعاية الدولة الثورية. وقد أسفرت الاستثماراتُ المُبكِرة للجمهورية الإسلامية عن أصلٍ قَيِّمٍ كان بمثابةِ نموذجٍ لجهودها اللاحقة: “حزب الله”. بعد الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982، بدأ الحرس الثوري الإيراني الوليد في تدريب وتنسيق “حزب الله”، الذي كان جماعة شيعية مسلّحة ناشئة. أدّت المساعدة الإيرانية على الفور إلى جعل “حزب الله” أكثر قوة: فقد شنّت الجماعة سلسلةً من التفجيرات الانتحارية المُدَمِّرة على منشآتٍ حكومية فرنسية وأميركية في العامين 1983 و1984 في لبنان، فضلًا عن عملياتِ خطفٍ واختطافٍ وعُنفٍ في مناطق أبعد، مثل تفجير مركز يهودي في الأرجنتين في العام 1994 وتفجير انتحاري لحافلة في بلغاريا أدّى إلى مقتل خمسة سياح إسرائيليين في العام 2012.

من خلال جناحه السياسي، توغَّلَ “حزب الله” في عُمقِ الحكومة اللبنانية، وقامَ بتثبيتِ أعضاءٍ في البرلمان والحكومة. ولم يُخفّف هذا الدور السياسي من اعتماد الجماعة الشيعية على العنف: فقد أُدينَ العديدُ من أعضاء “حزب الله” في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في العام 2005. وعلى الرُغمِ من الجهود الإسرائيلية والأميركية للقضاء على الميليشيا، فهي تحتفظ الآن بعشرات الآلاف من المقاتلين النشطين، وبمساعدة طهران، جمعت ترسانةً مُكَوَّنة من حوالي 150 ألف صاروخ وقذيفة معظمها قصير ومتوسط المدى، بالإضافة إلى طائرات مُسَيّرة ومضادات للدبابات والطائرات، ومدفعية مضادة للسفن. وتواصل طهران تقديم الدعم ل”حزب الله” بما يتراوح بين 700 مليون إلى مليار دولار سنويًا، ولا تزال الجماعة هي الفاعل الاجتماعي والسياسي والعسكري الأهم في لبنان.

لقد أثبتَ “حزب الله” أنه مُفيدٌ للغاية لإيران. ويُعَدُّ زعيمه السيد حسن نصر الله واحدًا من القوى الإقليمية القليلة التي تُشيدُ علنًا بالمرشد الأعلى لإيران باعتباره المرشد الروحي لمنظّمته، رُغمَ أنَّ “حزب الله” لم يَعُد يتبنّى هدفه المُبكِر المُتمثّل في إقامة دولة إسلامية في لبنان. إنَّ الدورَ الذي لعبه “حزب الله” في دَفعِ انسحابِ إسرائيل من جنوب لبنان، والذي اكتملَ في العام 2000، أكسَبَ المجموعة شهرةً إقليمية قصيرة، وشرعية محلّية دائمة، ويستمر انتشارها العالمي في تضخيم نفوذ طهران. فمنذ أوائل التسعينيات، لعب الحزب دورًا حيويًا في نقل الأموال والتدريب والأسلحة من إيران إلى مجموعة متنوعة من الجماعات الأخرى، بما في ذلك “حماس” على سبيل المثال لا الحصر.

اللعبة الطويلة

من خلالِ رعايةِ “حزب الله” كنموذَج، استثمرت إيران بعد ذلك قدرًا هائلًا من الجُهدِ والموارد في تنميةِ الجماعات المُسَلَّحة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وقد أتى الدعمُ الذي قدّمتهُ للجماعاتِ الفلسطينية المُسَلَّحة، وبخاصة لحركة “الجهاد الإسلامي في فلسطين” وحركة “حماس”، بفوائد هائلة على مدى العقود اللاحقة، كما فعلت مساعداتها لمُعارِضي صدام حسين الشيعة في العراق. وقد وَفّرت هذه العلاقات نقطةَ انطلاقٍ للنفوذ الإيراني عند نقاطِ تحوّلٍ رئيسة في الاستقرار الإقليمي. في تسعينيات القرن العشرين، أدّت الهجمات الإرهابية التي قامت بها حركة “الجهاد الإسلامي” إلى تعطيل عملية السلام الإسرائيلية-الفلسطينية ودفعت السياسة الإسرائيلية نحو اليمين. بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق في العام 2003، ساهمت رعاية طهران للمجلس الأعلى الإسلامي العراقي وحزب “الدعوة الإسلامية”، وكلاهما من الفصائل الشيعية المهمة، في جعل إيران اللاعب الأكثر تأثيرًا في النظام السياسي المُثير للجدل في العراق بعد الحرب.

من ناحيةٍ أُخرى، رَفَعَت الحربُ الأهلية السورية مكانةَ “حزب الله” إلى جوهرةِ تاج شبكة الوكلاء الإيرانيين. من خلالِ العملِ الوثيق مع الحرس الثوري الإيراني، قام “حزب الله” بتدريبِ وتنسيقِ الشبكة الأوسع من الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران والتي تدفّقت إلى سوريا من أفغانستان والعراق وباكستان واليمن. وقد أثبتت إيران مرونةً وواقعيةً بشكلٍ ملحوظٍ في تطويرِ هذه الشبكة، مما مكّنها من التحالف مع الشركاء والوكلاء في قاراتٍ مُتعددة. في بعض الأحيان، تستخدِمُ طهران مجموعاتٍ شاملة وغُرَفَ عملياتٍ مُشتركة لتنسيق الفصائل المتنوّعة، وفي أحيانٍ أُخرى تقومُ عمدًا بتَجزِئةِ المجموعاتِ الموجودة للحفاظِ على نفوذها عليها. لقد كانت أموال إيران وعتادها دائمًا بُعدًا مركزيًا في علاقاتها مع الميليشيات الفردية. ومع ذلك، على نحوٍ متزايد، لا تقوم طهران بنقل الأسلحة الجاهزة فحسب، بل تنقلُ أيضًا الوسائل إلى مجموعاتها الوكيلة لتَصنيعِ الأسلحة وتعديلها بشكلٍ مستقل.

ترى مؤسّسة الأمن القومي الإيرانية أنَّ الاستثمارَ في الحربِ غير المُتكافئة وسيلةٌ اقتصاديةٌ لكَسبِ النفوذ ضدّ الخصوم الأكثر قوة، وخصوصًا الولايات المتحدة. وقد تعزّزَ نفوذُ إيران على الميليشيات من خلالِ القضاء على معظم منافسيها المُتَطرِّفين في الشرق الأوسط. بعدَ الإطاحةِ بالحُكّام المُستبدّين الأثرياء مثل صدام حسين ومعمر القذافي في ليبيا من السلطة، أصبحت الجمهورية الإسلامية واحدة من اللاعبين الإقليميين القلائل الذين يمتلكون الاهتمام والموارد اللازمة لدَعم الميليشيات المسلّحة.

في كثيرٍ من النواحي، تَعكُسُ العلاقة بين إيران ووكلائها التفضيلات المُشتركة للحُكمِ الذاتي والمصلحة الذاتية. لقد عملت الطبيعة التطورية للاستثمارات الإيرانية في عملائها لصالحها، مما مَكَّنَ المؤسّسة الأمنية من الحفاظِ على شراكاتٍ ذات قيمة دائمة يُمكِنُها تحمّلَ الاضطرابات. على سبيل المثال، حتى عندما نأت “حماس” بنفسها عن إيران لسنواتٍ عدّة بعد اندلاع الحرب الأهلية السورية، واصلت طهران تزويدَ الجماعة بالتمويلِ المُتبقّي، ومع مرور الوقت عادت العلاقة إلى الانتعاش.

قَوسُ النصر

في أعقابِ الغزو الأميركي للعراق، سعت طهران إلى ترسيخِ نفسها بشكلٍ كاملٍ كوسيطٍ قوي في منطقةٍ تُعاني من الاضطرابات. شنّت إسرائيل حملةً حازمة لإضعاف النفوذ الإيراني من خلال “قص العشب”، أو ضرب المواقع الإيرانية في سوريا بشكلٍ روتيني لعرقلةِ محاولةِ الجمهورية الإسلامية تطوير جسرٍ بري لتزويد “حزب الله” وشبكته الأوسع من وكلائه. وقد حقّقت هذه الحملة عددًا من النجاحات التكتيكية، لكن لا يبدو أنهُ كانَ لها تأثيرٌ رادعٌ ملموسٌ على إيران ووكلائها.

في الوقتِ نفسه، كانت الولايات المتحدة تسعى إلى تعميقِ علاقتها مع مراكز قوى بديلة وتعزيزِ تحالفاتٍ جديدة لمواجهة طهران. فمن “الاحتواء المزدوج” الذي تبنّاه الرئيس بِيل كلينتون (والذي سعى إلى عزلِ كلٍّ من إيران والعراق وفي الوقت نفسه دفع عملية صنع السلام بين العرب وإسرائيل) إلى “الاستراتيجية المتقدّمة من أجل الحرية” التي تبنّاها الرئيس جورج بوش (الإبن) (والتي ركّزت على دفع عملية التحوّلِ الديموقراطي في الشرق الأوسط وخارجه)، لقد استثمرت واشنطن مرارًا وتكرارًا في مُخطّطات تهدفُ إلى استئصالِ التطرّفِ العنيف المدعوم من إيران من الشرق الأوسط، ولكن من دون جدوى. في خطابٍ ألقاه في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، تحدث المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، عن هذه الجهود، مُستَهزِئًا بأنَّ واشنطن “فشلت تمامًا في محاولة إنشاءِ “شرق أوسط جديد”. وتابع: “نعم، الخريطة الجيوسياسية للمنطقة تشهدُ تحوّلًا جوهريًا، لكن ليس لصالح الولايات المتحدة، ولكن لصالح جبهة المقاومة. نعم، لقد تغيّرت الخريطة الجيوسياسية لغرب آسيا، لكنها تغيّرت لصالح المقاومة”.

منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، ابتهجَ قادةُ إيران برُعبِ الإسرائيليين وحُزنهم واستغلّوا المُعاناةَ الهائلة التي يعيشها المدنيون الفلسطينيون في غزة لتعزيز مكانتهم كوسطاء للسلطة. لقد أتاحت الحرب فرصةً للجمهورية الإسلامية لاستئناف دورها الرسمي في المشاورات الإسلامية وعبر الإقليمية. وكما يفعلون غالبًا، جمع القادة الإيرانيون بين الديبلوماسية النشطة واستعراض القوة بهدف اختبار عزيمة أميركا.

تُشَكّلُ الهجمات التي تشنّها الميليشيات التابعة لإيران تحدّيًا مُعَقَّدًا للغاية لواشنطن والعالم. في الفترة من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 إلى منتصف شباط (فبراير) 2024، أدّت الهجمات التي شنّها الوكلاء المدعومين من إيران إلى مقتل ما لا يقل عن 186 شخصًا بين القوات الأميركية العاملة في الشرق الأوسط. وشملت هذه الإصابات 130 إصابة دماغية، وفقدان ثلاثة من جنود الاحتياط في الجيش الموجودين في الأردن، ومقتل جنديين من القوات البحرية أثناء مهمة لاعتراض الأسلحة الإيرانية غير المشروعة قبالة سواحل الصومال.

قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، استثمرت إدارة بايدن الكثير من الوقت والطاقة ورأس المال السياسي في خطّةٍ للمساعدة على تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. كان مثل هذا الاتفاق لو حصل سيُمثّلُ إنجازًا هائلًا لكلٍّ من الحكومتين والمنطقة الأوسع من خلالِ فَتحِ فُرَصٍ اقتصادية جديدة، ومع مرور الوقت، المساعدة على تهميش تأثير الجهات الفاعلة الخبيثة، بما في ذلك طهران ووكلائها. كانت جهود بايدن للتوصّلِ إلى اتفاقِ تطبيعٍ إسرائيلي-سعودي هي العنصر الأحدث في حملة أميركية طويلة لتعزيز التعاون بين الجهات الفاعلة الإقليمية التي تصف نفسها بالمعتدلة. بُنِيَت محادثاتُ التطبيع على نجاحِ اتفاقيات أبراهام لعام 2020، والتي مهّدت الطريق لإقامة علاقات ديبلوماسية بين إسرائيل والبحرين والمغرب والسودان والإمارات العربية المتحدة وفتحت فرصًا غير مسبوقة للتجارة الثنائية والتعاون العسكري والمشاركة بين الناس. كان من شأن الانفتاح مع الرياض أن يُعزّزَ هذا الاتجاه، مما يضع إيران في موقفٍ دفاعي حتى في الوقت الذي تسعى إلى تأمين تقاربها مع الرياض.

لا تزالُ قضيةُ إقامةِ علاقاتٍ ديبلوماسية كاملة بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية قضية مُقنِعة. لكن الحرب بين إسرائيل و”حماس” أضافت تعقيداتٍ مُذهِلة إلى ما كان سيصبح بالفعل مشروعًا طموحًا تاريخيًا. يرى العديدُ من الإسرائيليين داخل الحكومة وخارجها أنَّ الهجومَ المُروِّع الذي شنّته “حماس” لم يُسفِر إلّا عن تعزيزِ الاقتناع بأنَّ السيادة الفلسطينية تُشكّلُ تهديدًا أمنيًا غير مقبول. ومع ذلك، أثارت العمليات الإسرائيلية اللاحقة في غزة مطالب سعودية جديدة ببذلِ جُهدٍ حقيقي لمعالجة معاناة الفلسطينيين. وتتطلّبُ مساهمةُ الولايات المتحدة في التقارُبِ المُقتَرَح –إلتزامات أمنية تجاه المملكة العربية السعودية واستثمارات في البنية التحتية النووية المدنية للمملكة– موافقةَ المُشَرِّعين الأميركيين، وهو ما أصبحَ من الصعب تأمينه وسط مخاوف من أن تصعيدَ الحرب بين إسرائيل و”حماس” قد يجذب القوات الأميركية مباشرة إلى صراعٍ آخر في الشرق الأوسط.

إنَّ المزيجَ من الخطابةِ والديبلوماسية والإرهاب الذي استخدمته إيران ببراعة منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) يعمل على تعزيزِ بعضِ أولوياتها الإيديولوجية والاستراتيجية طويلة الأمد. وك”حماس”، تُطالِبُ القيادة الإيرانية بتدميرِ إسرائيل وانتصار العالم الإسلامي على ما تعتبره الغرب المُنحَدِر. إنَّ وجهاتَ نظرها ليست انتهازية أو عابرة؛ إنَّ مُعاداة أميركا والكراهية تجاه إسرائيل مُتأصّلتان في حجرِ الأساس للجمهورية الإسلامية. لكنَّ الحجمَ الهائل للدمار في غزة بعثَ حياةً جديدة في خطاب طهران المُناهِض للغرب وإسرائيل. يحملُ هذا الخطاب الآن جاذبيةً جديدة للجماهير الإقليمية التي كانت غير مُتعاطِفة مع الثيوقراطية الشيعية، ويمنحُ إيران فرصةً مُناسبة لإحراج منافسيها العرب السنّة. وترى طهران في الحزم الإقليمي فُرصةً لتوحيد نفسها بشكل أوثق مع روسيا والصين أيضًا. إنَّ مصالحَ تلك الدول الثلاث يتمُّ تحقيقها، في معظمها، من خلال إبقاء واشنطن غارقة في أزمةٍ في الشرق الأوسط تضرُّ بسمعتها وتستنزف قدرتها العسكرية. والجدير بالذكر أنَّ الصين وإيران وروسيا أطلقت مناورة بحرية مشتركة صغيرة، وهي الرابعة من نوعها في السنوات الخمس الماضية، في خليج عُمان في أوائل آذار (مارس).

خطر الحرب

من وجهة نظر طهران، فإنَّ الحربَ بين إسرائيل و”حماس” لا تؤدّي إلّا إلى تسريعِ التحوّلِ في ميزانِ القوى بعيدًا من الهيمنة الأميركية ونحوَ نظامٍ إقليميٍّ جديدٍ يُفيدُ الجمهورية الإسلامية. بعد عشرةِ أيامٍ من هجوم “حماس” على إسرائيل، حذّرَ محمد باقر قاليباف، رئيس البرلمان الإيراني، من أنَّ الغزو البرّي لغزة يُمكِنُ أن “يفتحَ أبواب الجحيم” – أي أنه سيؤدّي إلى رَدِّ فعلٍ ساحق ليس فقط ضد إسرائيل، بل أيضًا ضد المصالح والأصول الأميركية في المنطقة. مع ذلك، بالنسبة إلى حرّاس الثورة المُشاكسين في إيران، فإنَّ بقاءَ النظامِ يتفوَّقُ على كلِّ الأولويات الأخرى، لذا فإنَّ النهجَ الذي اتبعوه في الفترة من تشرين الأول (أكتوبر) إلى آذار (مارس) كان مُوجَّهًا باستهدافٍ حَذِر. وبعد أن أرسلت إدارة بايدن مجموعتَين هجوميتين من حاملات الطائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط في تشرين الأول (أكتوبر)، بذلت إيران وحلفاؤها قصارى جهدهم لتجنّبِ التصعيد السريع. وقامَ “حزب الله” بضبط هجماته على شمال إسرائيل ببراعة، في محاولةٍ على ما يبدو لتجنّبِ جَرِّ إسرائيل إلى معركةٍ أكثر سخونة يمكن أن تؤدّي إلى تآكل قدرة “حزب الله” على رَدعِ أيِّ ضربةٍ إسرائيلية مستقبلية لبرنامج إيران النووي.

ساعدَ نشرُ بايدن السريع للأصول العسكرية الأميركية في المنطقة، إلى جانب مبادراته الديبلوماسية في لبنان وغيره من الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسة، في تجنّبِ الحرب الأوسع التي ربما كانت “حماس” تأمل في التعجيل بها. أدّت سلسلةٌ من الضربات الأميركية على الميليشيات المدعومة من إيران في العراق وسوريا واليمن إلى تدهورِ قدرات تلك الجماعات، وأرسلت إشارة إلى شركاء طهران بأنهم سيدفعون ثمن العدوان المستمر ضد الأميركيين. ومع ذلك، فإنَّ خطرَ سوءِ التقدير الأميركي والثقة المُفرِطة سوف يتزايد بمرور الوقت. تتمتّعُ الميليشيات الإيرانية بسجلٍ طويلٍ من المثابرة والقدرة على التكيّف، والأسلحة المُتاحة لها وفيرة وغير مُكلِفة نسبيًا، خصوصًا بالمقارنة مع تكاليف الضربات الأميركية للقضاء عليها.

على مدارِ العقودِ الماضية، طوّرت إيران ووكلاؤها غرائز حادة لمُعايَرَة المخاطر. والآن، بعدَ قياسِ تراجُعِ الاهتمامِ الأميركي بالشرق الأوسط، يرى القادة الإيرانيون أنَّ هناكَ ميزة يُمكِنُ اكتسابها من خلال المقامرة. إنهم يسعون من خلال هجماتهم إلى استفزاز الولايات المتحدة لارتكابِ أخطاءٍ تمنحُ طهران وحلفاءها ميزة – وهي أخطاءٌ مُشابهة لتلك التي ارتكبتها واشنطن قبل عقدين من الزمن، عندما غزت العراق، أو في العام 2018، عندما انسحب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني الذي وقّعه الرئيس باراك أوباما. إنَّ سوءَ التقدير من قِبَلِ أيٍّ من الجهات الفاعلة المعنية، بما في ذلك إيران ذاتها، من المُمكِن أن يُشعِلَ صراعًا أوسع نطاقًا وأكثر حدّة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وهو ما من شأنه أن يُلحِقَ أضرارًا جسيمة بالاستقرار الإقليمي والاقتصاد العالمي.

لمواجهةِ طموحاتِ إيران، يجب على إدارة بايدن العملَ مع إسرائيل والحلفاء الإقليميين لزيادةِ تآكل قدرة “حماس” على شنِّ هجومٍ صادمٍ آخر ضد المدنيين الإسرائيليين مع ضمانِ وصولِ المساعدات الإنسانية إلى المدنيين الفلسطينيين اليائسين وتحديد الطريق إلى مستقبل ما بعد الحرب الذي يضمن السلام والاستقرار لكلٍّ من الإسرائيليين والفلسطينيين. اعتبارًا من أواخر آذار (مارس) 2024، كانت واشنطن تواصلُ الضغطَ من أجل التوصّلِ إلى اتفاقٍ يتطلّبُ من “حزب الله” سحب قوات النخبة الخاصة به من الحدود اللبنانية مع إسرائيل، مما يسهل عودة آلاف المدنيين الإسرائيليين الذين تعرّضت منازلهم لقصف صواريخ “حزب الله” منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). إنَّ تحقيقَ مثل هذا الاتفاق أمرٌ بالغ الأهمية لمنعِ نشوبِ صراعٍ أوسع نطاقًا، ويجب على واشنطن أن تضغطَ بشدّة من أجل تحقيق ذلك، مع الاستفادة من المصالح الواضحة لجميع الأطراف المعنية لمنع التصعيد. في العام 2022، نجحت الولايات المتحدة في التفاوض على اتفاق رسم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان للسماح بالتنقيب عن الغاز، مما يشير إلى وجود فُرَصٍ أخرى للتوصّل إلى تسويةٍ عملية.

وقد بدأت إدارة بايدن بالفعل القيام بدورٍ أكثر قوة في معالجة الأزمة الإنسانية في غزة. ومن المؤسف أنَّ هذه الجهود قد تكون أقل مما ينبغي ومُتأخّرة للغاية لمنع المجاعة. إنَّ المجاعةَ في غزة ستُشكّلُ فشلًا استراتيجيًا وأخلاقيًا للولايات المتحدة وكذلك لإسرائيل، ويجب على بايدن ألّا يُكرّر الأخطاء التي سمحت لشبحِ مثل هذه الكارثة السيطرة على المنطقة. إنَّ أيَّ جُهدٍ ناجحٍ حقًا لوَضعِ حَدٍّ للتهديد الذي تُشكّله “حماس” –والذي بدوره سيحدُّ من قدرة إيران على ممارسة العنف ضد إسرائيل– سوف يتطلب تخفيف التداعيات المُدَمِّرة على المدنيين الفلسطينيين.

من خلال العمل مع المنظّمات غير الحكومية والحكومات الشريكة، يجب على وزارة الخارجية الأميركية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية الإسراع بتقديم المساعدة إلى السلطات المدنية الفلسطينية المستقلة عن “حماس” وغيرها من الميليشيات المدعومة من إيران – بما في ذلك المساعدات لضمان حصولها على الموارد اللازمة للقيام بجهود إعادة الإعمار في غزة عندما يتوقف النزاع المسلح. بعد حرب العام 2006 بين إسرائيل ولبنان، مكّن التسليم السريع للمساعدات من جانب إيران “حزب الله” من انتزاعِ النصر من بين فَكَّي الهزيمة والتفوّق على الحكومة اللبنانية في المناورة من خلال تقديم التعويضات الفورية وبرامج إعادة البناء. ويجب على الولايات المتحدة ألّا تسمح لطهران أو وكلائها بفرصةٍ مُماثلة بعد انتهاء الحرب في غزة.

ومما يزيدُ التحدَي الذي تواجهه واشنطن حقيقةَ أنَّ إيران قامت بتسريعِ تطويرِ برنامجها النووي منذ انسحاب ترامب في العام 2018 من الاتفاق النووي الإيراني. ومن الأهمية بمكان أن يعملَ المسؤولون الأميركيون على تنميةِ حسِّ الواقعية. وربما أنَّ المسرحية الاستراتيجية الكبرى للتحالف بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل قد تتحقّق في آخر المطاف. إنَّ تطبيع العلاقات الإسرائيلية-السعودية وسيلةٌ جذابة لتعزيز السلام والاستقرار في المنطقة ومواجهة نفوذ إيران الخبيث في المدى الطويل، لكن تحقيق ذلك يتطلّب سقّالات سياسية مُعَقَّدة لم يتم تصميمها بالكامل بعد، ناهيك عن بنائها. إنَّ تحقيقَ هذا التطبيع يتطلّبُ خططًا أكثر فعالية في المديين القصير والمتوسط لتوفير الحكم والأمن في غزة، وفتح الطريق أمام انتقال القيادة وتغييرها في كلٍّ من الأراضي الفلسطينية وإسرائيل، واحتواء الضغوط التي تمارسها مجموعة متنوّعة من الجهات الفاعلة، وخصوصًا إيران، لتوسيع الصراع في الشرق الأوسط. يجب أن تكون هذه أولويات واشنطن خلال العام المقبل.

بمعنى ما، تتمتع إيران الآن بالميزة الافتراضية على الولايات المتحدة لأنها لا تحتاج في الواقع إلى تحقيقِ أيِّ شيءٍ ملموس في المدى القريب. الفوضى في حدِّ ذاتها سوف تُشكّلُ انتصارًا بالنسبة إليها. وعلى النقيض من ذلك، فإن مستوى نجاح الولايات المتحدة مرتفع. ومع ذلك، سواء شئنا أم أبينا، تظل أميركا لاعبًا فريدًا لا غنى عنه في المنطقة على الرُغم من سجلّها المشكوك فيه على مدى العقود العديدة الماضية. إنَّ الوقوفَ إلى جانب حلفائها ــوضمان الوصول إلى النفط الذي يظلُّ حيويًا للاقتصاد العالميــ في ظلِّ توازنٍ دقيقٍ بين الدعم وضبط النفس يتطلّب الالتزام. كان العديد من رؤساء الولايات المتحدة يأملون في تقليص دور أميركا في الشرق الأوسط بتكلفة رخيصة – في حالة بايدن، للتركيز على التحدّي الذي تمثّله الصين والتهديد الروسي المتزايد. لكن “حماس” وإيران أعادتا الولايات المتحدة إلى المنطقة مرةً أُخرى.

  • سوزان مالوني هي نائبة رئيس معهد بروكينغز ومديرة برنامج السياسة الخارجية في المعهد، ومُتخصّصة في الشؤون الإيرانية. يُمكن متابعتها عبر منصة تويتر (X) على: @MaloneySuzanne
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في مجلة “فورين أفّيرز” الأميركية في عددها الصادر لشهرَي أيار (مايو) وحزيران (يونيو) 2024.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى