من أجلِ الله، إفتحوا الباب… ضَحّوا بما تعتبرونه مَصالِحكم، وانقذونا

السفير محمد الحركة*

من أجلِ الله … إفتح الباب يا “أندرياس”. بهذه الكلمات المتوسّلة، طرق القبطان ” باتريك سوندنهايمر” (٣٤ عاماً) باب مقصورة الطائرة “أجنحة إلمانيا” التابعة لشركة “لوفتهانزا”، التي كانت تقوم برحلة عادية رقمها ٩٥٢٥ من مطار “برشلونة” في إسبانيا، الى مطار “دوسلدورف” في إلمانيا. توجّه القبطان بهذا الرجاء الى مساعده في القيادة “أندرياس لوبيتز” (٢٧ عاماً) الذي استغلّ فرصة خروجه من غرفة القيادة، ليُوصِدَ الباب بإحكام، رافضاً إعادة فتحه، على الرغم من محاولاتِ القبطان البائسة. ها هو يتحكّم بالهبوط القسري للطائرة، نزولاً من ١١ ألف متراً في الفضاء الى أدنى مستوى لها، وسط صلوات وصراخ وأنين مئة وأربعة وأربعين شخصاً من ركاب الطائرة، فضلاً عن ستةٍ من أفراد طاقمها. في أثناء الهبوط السريع للطائرة، لم يُجِب “أندرياس” عن أسئلة برج المراقبة الفرنسي على موجات الراديو المُحدّدة، ولم يأبه لطائرة ميراج فرنسية حاولت التصدّي لما يجري، إنقاذاً للوضع… وأبى حتى آخر لحظة أن يفتح باب المقصورة.

كانت عشر دقائق كافية لترتطم الطائرة بأحد جبال” ألألب” الفرنسية، ويقضي الموت على كلِّ مَن فيها.

منذ ستة أعوام، وبالتحديد في الرابع والعشرين من آذار (مارس) ٢٠١٥، حدثت تلك المأساة التي لا زالت مُوجِعة بأليم وقعها. مما زاد من حزن الجميع، انه كان بالإمكان تجنّبها، لو أُميطَ اللثام في الوقت المناسب عن خطورة الوضع النفسي ل “أندرياس”. لقد رمى هذا الأخير، في سلّة المهملات، تقرير طبيبه المُعالِج الذي يتضمّن عدم قدرته النفسية والعقلية على العمل. وبالتالي، لم تعلم شركة الطيران بفحوى التقرير الطبي لاتخاذ ما يلزم، درءاً لأيِّ خطرٍ مُحتمَل.

أكّدت المعلومات لاحقاً وضع “أندرياس” النفسي الهشّ: إذ أوقفت “لوفتهانزا ” برنامج تدريبه في العام ٢٠٠٨، بعد ثلاثة أشهر من بدئه، إثر نوبة كآبة حادة ألّمّت به. غير أنه عاود تدريباته في الولايات المتحدة في العام ٢٠٠٩ التي تلكّأت مؤقتاً في منحه إجازة الطيران، بسبب أزمة نفسية أخرى. باختصار، نجح “أندرياس لوبيتز” في تسويق نفسه كإنسانٍ طبيعي، على الرغم من مشاكله النفسية والعقلية. ومما أسهم في عدم كشف خطورة وضعه، سرّية الملف الطبي الشخصي التي حالت دون التواصل اللازم بشأنه. وربما ساعده أيضاً اسمه الذي يتضمّن معناه باليونانية الرجولة والشجاعة والقوة…

لما كانت شركات الطيران تُخضِع بشكلٍ عام الطيارين الذين تجاوزوا الأربعين عاماً الى فحصٍ طبّي ونفسي كل ستة أشهر، ومَن هم دون الأربعين الى الفحص نفسه كل سنة، يبدو أن “أندرياس” قد نفذ أيضاً من شباك افتضاح وضعه النفسي الخطير، بفضل حالاتِ هدوءٍ نفسي نسبي.

أنا أعترف -أيها القارئ العزيز- أن خيالك قد سبقني الى التساؤل عن عدد “الأندرياسات” الذين يقودون طائرة الوطن الى الهلاك في لبنان: إذ كيف يعقل أن نصل الى هذا الدرك، على كافة المستويات، من دون وجود خللٍ خطير.  صحيح أن عوامل خارجية قد عصفت بالوطن. لكنها لا تكفي وحدها لتبرير ما حلّ بنا من بلاء، وبخاصة أن القادة يُثبتون مهاراتهم الحقيقية أو فشلهم في الظروف الكأداء. كما تنشط الديبلوماسية المرنة والذكية للتخفيف من وطأة الأحداث، بغية إنقاذ الوطن. ما يُعايشه الشعب اللبناني اليوم من تعاطي المسؤولين فيه مع هول المخاطر، هو أبعد ما يكون عن تصرّف العقلاء. لقد أوصِدَ باب تشكيل الحكومة في لبنان، مثل باب مقصورة قيادة الطائرة المُغلَق بإحكام. كما أغلقت المصارف أبوابها أمام مراجعات المودعين للتصرّف بأموالهم. تهاوت العملة الوطنية والقطاعات والمرافق كلها في لبنان، بما يشبه الهبوط القسري للطائرة إلى جهنم. ومثلما حاولت طائرة “الميراج” الفرنسية مساعدة “أندرياس” على منع حصول الكارثة، لم يتلقّف المسؤولون في لبنان مبادرة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” للتجاوب مع مساعيه عبر التصرّف الحكيم المناسب… صرخ القبطان وسط هلع الركاب: من أجل الله…إفتح الباب “يا أندرياس”. غير أن ألأخير لم يتفاعَل مع النداء، لأنه في تلك اللحظات القاتلة، كان ينصت الى وسوسات الشيطان الخنّاس، الذي سيطر على عقله وقلبه معاً.  يصرخ اللبنانيون اليوم في كافة أرجاء الوطن: بالله عليكم…أنقذونا. غير أن أتباع “اندرياس” لم يرغبوا في سماع صرخات وأوجاع الشعب، عبر تصحيح المسار الكارثي، واتخاذ القرارات الصائبة، وتنفيذ الإصلاحات اللازمة.

حَظِيَ لبنان في العالم بالاحترام والتقدير طوال عقود. وصفه البابا القديس يوحنا بولس الثاني بأنه أكثر من وطن، إنه رسالة. أثار الإعجاب والفضول، لأنه امتلك المُقوِّمات والطاقات التي تؤهّله للبقاء في قائمة الدول الناجحة. غير أنه أضحى في أسفل قائمة الدول عالمياً على أكثر من صعيد. ولم يصل لبنان الى تلك النتيجة المخزية صُدفة، بل هناك مُتسبّبون حقيقيون، لم تُعلن أسماؤهم على الملأ. ولم تكشفهم لا ملفات طبية سرّية ولا “رادارات” العدالة، أو أجهزة الرقابة…

بكل صراحة، أدهشني عدم وجود أي طبيب نفسي في ساحات التحليل لما يجري، رُغم وفرةِ المُحلّلين في كافة المجالات… أن نظرة أولى سريعة تُنبئ بأعراضٍ مخيفة: أولها اللا مبالاة وغياب التفاعل، والتعاطف الكافي، عند معظم المسؤولين في كافة القطاعات، مع هول ما يُعاني منه أبناء الوطن من مآسٍ، علاوة على ضرورة الإسراع في التصدي لها بما تستحق من الجدية. وينبغي التساؤل أيضاً عن الأسباب النفسية والعقلية التي دفعت معظم الطبقة السياسية إلى الانخراط في حكمٍ “كليبتوقراطي” (Kleptocracy) طغت عليه السرقات، ما أدّى إلى استسهال خرق المُحرّمات على حسابِ المصالح العُليا للوطن. ومن التساؤلات: لماذا يَستسهِل المسؤولون التضحية بالمصلحة الوطنية لحساب المصلحة الشخصية، علماً أن المصلحة الوطنية تحمي مجموع المصالح الشخصية والعائلية والمُجتمعية؟ هل يُكابد البعض من عذابات مرض “كزينوميليا” (xenomelia) أي “متلازمة الطرف الأجنبي” الذي لا يطيق أعضاء كاملة من جسم الوطن، بحيث يودّ سلخها عنه نهائياً لترتاح نفسيته؟ وهل يستمتع البعض في “السادية ” التي تتلذّذ بتعذيب شعبٍ جميلٍ يحب السعادة والهناء؟ … لضيق المجال، هذا نذرٌ يسير مما ينبغي على علماء النفس تبيانه، ومحاولة اجتراح عجيبة علاجه. يبقى التساؤل مشروعاً بالنسبة إلى أمرٍ أساس: إذا انضوت الملفات الطبية الشخصية للمسؤولين على أية أسرار خطيرة في عواقبها على المجتمع، أَوَ ليس من المصلحة الحيوية للوطن إيجاد الحلّ السعيد لها؟

يقول البروفسور جان بِرنار في مقابلة مع الطبيب “بيار رينتشنيك” والصحافي “بيار أكوس” مؤلِّفَي كتاب” “هؤلاء المرضى الذين يحكموننا”:” إن العقلية الفريدة لهؤلاء، ترفض اعتبار صحّتهم غير مُتلائمة مع إمكانية إدارة البلد… وبالتالي، الإقرار بأن عواقب مرضهم تنطوي على مخاطر حقيقية لمواطنيهم”. ويُضيف “إنني أقترح دوراً للمجلس الدستوري، بناء على تقارير دورية للجنة طبية يُعّينها، شرط أن تكون مهمتها استشارية أكثر منها تقريرية”.

لم يفتح “أندرياس” باب مقصورة الطائرة في الوقت المناسب، لأنه وجد راحةً نفسية في القضاء على نفسه مع جميع الركاب. وها إن المسؤولين في لبنان لا زالوا يوصدون الأبواب أمام إنقاذ الوطن. مما يدفعنا الى التساؤل: هل لا زال هناك بصيص أمل، قبل فوات الأوان، في أن يجدوا سعادة حقيقية ليس في هبوط الوطن إلى إرتطام قاتل، بل عبر تلبية نداء اللبنانيين بعد سماع وجعهم الصارخ في كافة أرجاء الوطن: “من أجل الله، افتحوا ألباب …ضحّوا بما تعتبرونه مصالحكم، وأنقذونا”.

إن الخيارَ واضحٌ: إما انحدار الوطن بكل ما ومَن فيه – إلى المكان الذي يرتطم فيه بجبل اسمه: القهر والذل قبل الزوال. وإمّا أن يُعاود الوطن تحليقه عالياً حيث الطمأنينة والأمن والسلام.

  • السفير محمد الحركة هو ديبلوماسي لبناني متقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى