من فوضى الدعم إلى أوهام”البطاقة”

الدكتور غسان الشلوق*

في لبنان، يستمر الجدل وسوء التقديرعلى غير مستوى حول المشروع الحكومي المعَدَّل والمؤيَّد من أطرافٍ سياسية مُختلفة بهدف الخروج من “فوضى الدعم” عبر احتمال خطرِ مشروعِ “فوضى” اّخر وأوهامٍ واسعة مع ما يسمى”البطاقة التمويلية” و”الترشيد” الجزئي. وعلى الرغم من تحسّنٍ أصاب المشروع الأساسي خلال نقاشٍ طويل ساهم فيه خبراء هذا الشهر، فإنّ ثغرات اساسية عدة ما تزال ماثلة لاسيما بشأن “البطافة” و”الترشيد” الجزئي والحلول الجدّية.

أوّلاً: في “البطاقة”:

  • إن سياسة “البطاقة التمويلية” التي يقترحها المشروع تتناقض نظرياً مع شروطِ النشاط الاقتصادي الحرّ وتحسين إنتاجية العمل والبطالة وسواها، كما إنها تُشجّع الاتكالية وسوء التصرف. وعلى الرغم من تجارب ناجحة نسبياً في بعض الدول وفي حالاتٍ محصورة، فإنّ نجاح تطبيقها في الحالة اللبنانية الحاضرة دونه عقبات عدة أقلّها تنظيمية ومالية.
  • إن أعداد المُستفيدين من البطاقة باتت مفتوحة لأعدادٍ غير مُحدَّدة بعدما كانت في حدود 700 ألف ثم 800 ألف أسرة في المشروعِ الأوّل ثم في نقاشات لاحقة، أي نحو 70% من الأُسَرِ المقيمة. ومن شأن ذلك أن يؤدّي إلى زيادة التكاليف وإضافة سلبيات في مجتمعٍ يعجّ بالفساد.
  • إن التقديرَ الأخير للتعويضات هو 100 دولار أميركي كحدٍّ أقصى شهرياً، لكن المشروع يتحدّث عن إمكان (أي عملياً تأكيد) زيادته لاحقاً. وهذه مسألة أُخرى غير مُناسِبة، فالتعويضات تُدفَعُ بعملةٍ غير لبنانية، ولو مرحلياً، يما يؤذي اّخر مداميك الوحدة الوطنية والسيادة، كما إن المبلغ يكاد يساوي بسعر اليوم الواقعي ضعف الحدّ الأدنى للأجور، وهو ما يُناقض أبسط المنطق خصوصاً أن اقتراحَ المعالجة يتردّد خطأً في زيادة الأجور كما يتبيّن لاحقاً.
  • إن المشروع يصطدم أوّلاً بالتمويل، إذ يتحدّث عن “قيام الحكومة بجذب مؤسسات دولية ودول مانحة” من دون إسقاط احتمال التمويل الداخلي، علماً أن المساعدات الخارجية باتت ترتبط بإصلاحاتٍ جوهرية ضرورية يبقى الحديث عنها مجرّد عناوين جزئية وغير واضحة في المشروع، كما ترتبط المساعدات بالاعتبارات السياسية المعروفة والحادة. ثم أن التمويل الداخلي شبه مستحيل مع بدء استعمال الاحتياطي الإلزامي في مصرف لبنان والعجز الهائل والمُرشَّح للتزايد في الموازنة. وهذا يعني ببساطة أن الحكومة تُطلقُ خطةً لا تتوافر شروط تنفيذها حتى الآن.
  • إن المشروعَ لا يحسم كيفيّة اختيار الأسَر المُستفيدة، ويقف بالتالي أمام تحدّيات تنفيذية إضافية. فالإحصاءات الرصينة شبه غائبة، والزبائيية تتهدّد البرنامج بأكمله، خصوصاً أن تجارب عدة سابقة دلّت على التلاعب بالمُعطيات الإحصائية وزجّت بالوف (وربما عشرات الالوف) من غير المُستحقّين والموتى والمسافرين … في حين أن مستحقّين كثراً غابوا وهم مُرشحّون للغياب اليوم لغير سبب.
  • إن المشروع لا يتطرّق إلى جوانب أساسيىة منها الإدارة وأكلافها المُقدَّرة أن تكون عالية وعمولات المصارف وثمن البطاقات…وكل هذه العناصر تزيد التكاليف وتخلق إرباكات.
  • إن “البطاقة” بعملةٍ أجنبية للأسف تُحرِّضُ تلقائياً، كما في حالاتٍ مُماثلة عديدة، على سوء الاستعمال الذي يبدأ بالإنفاق على الحاجات غير الاساسية ويصل الى الإنفاق السيِّئ وغير الأخلاقي للمساعدات.
  • إن “البطاقة “تعكس عملياً صورة “توظيف” 700-800 ألف شخص في وقت تتضاعف الشكوى من بعض أصحاب التصوّر الجديد قبل سواهم من حجم القطاع العام ومشاكله المُتعدّدة. وفي المطلق لن يكون سهلاً التخلّي عن هذا “التوظيف” لاحقاً. والتجارب واضحة.
  • إن صعوباتٍ عملانية أخرى تتهدّد المشروع أيضاً منها البعد الشديد في الأرياف لأعداد كبيرة من الفقراء فعلاً وصعوبة، وربما شبه استحالة، تعامل هؤلاء مع التقنيات الحديثة (بطاقات الدفع المصرفية، بعض خدمات الإنترنت…) التي يفرضها التنفيذ.
  • إن “البطاقة “تبقى عملياً بلا فائدة بل مجرّد وَهمٍ إذا استمر الانهيار، وإذا لم تترافق مع إصلاحاتٍ تبدأ بالاستقرار السياسي.
  • إن المشروع لا يلغي أخيراً سياسة الدعم ولو بفوضى مخففة جزئياً بحيث يستهلك تمويل “البطاقة” قسماً كبيراً من الوفر متى توافر حقاً عبر “الترشيد”.

ثانياً: في “ترشيد” الدعم

  • إن مشروع “الترشيد” لم يكن رشيداً تماماً رُغمَ التحسينات الملموسة في الصيغة الأخيرة. ولعلّ أطرافَ المشكلة الأبرز تظلّ تكمن في المازوت والكهرباء والإدارة العامة وحتى الأدوية رُغم إيجابياتٍ سُجِّلت عليها أخيراً.
  • وهكذا فإن الخطة تمضي في دعم الكهرباء ولو بصيغةٍ أقل نظرياً (750 مليار ليرة “فقط”بسعر 1507.5 للدولار طبعاً) مع “تصحيح تدريجي” للتَعرِفة، لكن الخطة تُجانب المشاكل الأساسية كالإنتاج عبر معامل حديثة غير مُكلفة جداً وغير مُرتبطة بإشكالات الفيول الفضائحية، كما مشاكل التوزيع والجباية ولاسيما الساعات الذكية، وهي مشاكل تنسف في حال استمرارها أيّ حلّ مُحتَمل، وتجعل تخفيف الدعم مُجرّد وَهمٍ، خصوصاً إذا استمرّ التهديد بالعتمة وضغط المصالح قائماً.
  • إن المشروع يستمر أيضاً وبشكلٍ غير مفهوم في دعم المازوت “خلال العام الأوّل”. ويُعزّز هذا الواقع الإعتقاد السائد أن مسألة المازوت تتجاوز المنطق الاقتصادي والاجتماعي إلى اعتباراتٍ أُخرى مصالحية احياناً، لاسيما أن هذا الدعم يُمثّل أبرز التكاليف وعناصر الفوضى، كما أحد شروط التهريب الواسع الذي يقول المشروع بضرورة “وقفه” لكنه يسمح بتعزيزه عبر دعم المازوت.
  • يدعو المشروع إلى تخفيض دعم الأدوية نحو النصف مع المحافظة على دعمِ أسعارِ أدوية الأمراض المُزمنة و”المُلحّة”. وتفتح كلمة “المُلحة” الباب على تجاوزاتٍ في وقت تتوسّع بشكلٍ غيرمقبول ولغاياتٍ غير صحّية أعداد الأدوية المسموح بها والمدعومة.
  • وفي خطوةٍ إيجابية يقترح المشروع خفض نفقات القطاع العام من نحو 1100-1200 مليون دولار (في 2020) إلى 700 مليون في العام المقبل، باعتبار أن التزامات هذه السنة تمّت تقريباً. لكن المشروع لا يُحدّد مكامن المشكلة ولا يُصيب الهدر الفاضح في جوانب أولى من الانفاق الحكومي (والمقصود هنا بالعملات الأجنبية) في مجالاتٍ مُحدّدة كالسفارات (ومنها أكثر من سفارة في دولة واحدة) كما في التشريفات والسفر لوفود فضفاضة.
  • ويستمر الدعم غير المُكلف نسبياً على القمح ويُزال تدريجاً عن البنزين، أما المواد الغذائية فيتوقّف دعمها بعد مهلة ثلاثة أشهر، وهي مهلة ربما سمحت بالتخزين الواسع في بلدٍ مفتوح.
  • وثمة ثغرةٌ أخرى تقنية، لكن يمكن أن تنطوي على اّثار ملموسة، تتمثّل في أفضلية الرفع التدريجي وبجرعاتٍ محدودة بدل الجرعات الكبيرة المؤذية بحيث تُصبح هذه العملية أقل تأثيراً سلبياً، ولا يبدو أن هذا التوجّه قام فعلاً.
  • يبقى جانبٌ مهمٌّ، وربما الأهمّ، يتمثّل في كلفة الدعم، إذ يُحدّد المشروع التكاليف السنوية (السنة الاولى) بنحو ملياري دولار تضاف إليها مدفوعات عن الإدارة بنحو 700 مليون دولار والمبالغ المخصصة للبطاقة التي يمكن ان تصل الى نحو مليار دولار. وهذا يعني أن المشروع يُراهن على نفقاتٍ إجمالية للدعم في صيغته المُعدَّلة تتراوح بين 3.7 و4 مليارات دولار في 2022، مقابل نحو 5 مليارات في تقديرٍ أوّلي للعام 2021 ونحو 6.2 مليارات للعام 2020. وأغلب الظن أن هذه النتيجة مُفرطة في التفاؤل، وأن المبالغ المُرَجّحة للإنفاق في دولةٍ مشحونةٍ بعوامل الفساد مُرشَّحة للزيادة، خصوصاً أن التقديرات الرسمية لا تشمل التكاليف الإدارية وهي كبيرة، والعمولات ومنها العمولات المصرفية. وهذه الأكلاف الأساسية والإضافية تُهدّد المشروع المطروح، كما تُهدّد ثروات وطنية مُجمّعة تاريخياً وأساسية كالذهب. والسؤال المشروع إزاء ذلك: هل هذا هو الحل؟ وهل يجهد المجتمع ويتخبّط طويلاً من أجل استمرار نوعٍ اّخر من خطر الفوضى بوفرٍ قد لا يزيد عن 20-25% مما ندفعه، وهو وفرٌ يمكن أن يتوافر بسهولة في تدابير أقل تعقيداً.

ثالثاً: ما الحل؟

لكن ما الحل الذي يُمكن أن يؤدّي إلى بديلٍ مقبول؟

إن المدخلَ إلى الإجابة يكمن في المبدأ العلمي والإداري المعروف القائل إنه إزاء مشكلةٍ هيكلية لا يصحّ الاكتفاء بتدابير تقنية محدودة الفعالية وبالمسكّنات، وهذا يعني أن الحلّ السليم لا يُمكن إلّا أن يكون شاملاَ هيكلياً وجذرياً.

وبكلامٍ اّخر، إن الحلّ الجذري المطلوب في حالةٍ كالحالة اللبنانية الراهنة ليست مشكلة فوضى الدعم إلّا جزءاً بسيطاً منها تكمن في إطارٍ واحد: بناء القرار السياسي بدءاَ بحكومةِ إنقاذٍ ذات برنامجٍ مُختلفٍ (وليس ما يقول المشروع عن “عمل حكومي فعّال”)، ثم الإصلاح الفعلي والشامل.

والإصلاح الفعلي الشامل لا بدّ أن يأتي عبر تغييراتٍ في السياسة المالية، لاسيما في سياسةِ نفقاتٍ مُعقلَنة، وسياسة ضرائبية يصحّ أن تتضمّن مُبادراتٍ مرحلية على شكل “ضريبة النهوض والتكافل الاجتماعي”، وسياسة اقتصادية تقوم أوّلاً على دعمٍ مُتعدّد الوجوه لمؤسسات الإنتاج بشروطٍ واضحة تتصل بحقوق العمال والنوعية وسياسة التسعير وإعادة بناء وتفعيل خريطة الصادرات وتفعيل العلاقة مع الانتشار بتصوّرٍ مُختلف، وسياسة إجتماعية أبرز أركانها سياسة أجور جديدة –بعد تصحيح الأجور الحالية– ووقف تدمير التعليم، وإصلاحاتٍ مُلحّة في النقل والإسكان، وإعادة بناء مؤسّسات الرعاية الإجتماعية بدءاً بصندوق الضمان، كما باحترام  معايير العمل (الإتفاقات) الدولية الخاصة ببناء وضمان حرية واستقلالية النقابات.

ولا بدّ أن يترافق كلّ ذلك مع إصلاحٍ إداري جذري يبدأ بإعادة السلطة إلى أجهزة الرقابة، ووقف التوظيف ريثما يُعاد رسم التوصيف الوظيفي بكل بنوده.

والمهم الأهم قيام السلطة القضائية المستقلة بصلاحياتٍ وإمكاناتٍ استثنائية.

وفي ظننا أن خطوةً واحدة على الأقل تتمثّل في سلطةٍ ذات برنامجٍ مُختلف ووعدٍ صادق ومُقنِع بالإصلاح تؤدّي خلال أيامٍ قليلة، وليس شهور، إلى تعزيزِ الثقة، وإلى تحسّن مؤشّرات العيش عبر تحسّن سعر العملة الوطنية بمعدّلٍ قد يصل في مرحلة أولى إلى نحو 25% أي ما يفوق ربما  الأحلام بل الأوهام الناشئة عن “البطاقة”. فلماذا إذن كل هذا الجهد؟ وكل هذه الأوهام؟

ولا بأس هنا أن يترافق كل ذلك مع بناء “سلّة غذائية”شهرية خاصة لكلِّ العائلات المُصنَّفة فقيرة وحتى الاقل فقراً ومتوسطي الدخل بديلاً من أحلام “البطاقة” على أن تشمل السلّة  كل السلع الضرورية لاستمرار عيش الأُسرة بحيث تكون كلفتها أقل بكثير (ربما نحو 20%) من “البطاقة”، كما إن السلّة تسمح دائماً باحتمال تبادل السلع التي تفوق الحاجة مع أُسَرٍ أخرى.

ومن إيجابيات هذا المشروع ايضاً أنه يحصل بالتأكيد، وبخلاف “البطاقة”، على دعم دولٍ ومنظّماتٍ أجنبية بما يُخفّض مرة أخرى التكاليف ويستبعد كل سوء استعمال للمساعدات المالية. ويوفّر المشروع دعماً كبيراً لمؤسسات الانتاج الوطنية صناعية وزراعية إذ يحصر غالبية السلع بإنتاجها، أما الإدارة فيُمكن أن تُحصَر بالجيش اللبناني وهيئاتٍ محلّية علماً أن المؤسسة العسكرية تقوم بنجاح بمهام فوق عسكرية عدة. وثمة غير دليل على ذلك في المرحلة الأخيرة.

  • دكتور غسان الشلوق هو باحث أكاديمي لبناني وبروفسور في العلوم الإقتصادية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى