القيادات المُلهَمَة

رشيد درباس*

الرائد لا يَكْذِبُ أهْلَه.  (حديث شريف)

يستسهل الإعلام السلطوي في دول التخلّف والاستبداد إلصاق “تهمة المـُلْهم” بكل من تُبَوِّؤه الظروف التعسة سُدَّة قيادية. وبمرور الزمن الـمـُكْسبِ، يصبح اللقب جزءًا باهتاً من اسم العائلة قابلًا للتوريث، حتى ولو انقطعت صلة الحقيقة بالمعنى، وثبتَ بالوجه الشرعي نفور الصفة من الموصوف.
ومن النافل القولُ إنَّ على كلِّ قائد أن يتمتّع ببصيرة مكتسبة من البنية الفكرية والثقافية والتجربة الغنية والاتزان النفسي، لأن الحكم في حد ذاته مبنيٌّ على الاستشراف (gouverner c’est prévoir) . لكنَّ القيادة ليست تماديًا عشوائيًّا في الجبهات، بل هي شجاعة تَحَمُّلِ المسؤولية وقبول المحاسبة؛ فونستون تشرشل لم يكن مُلهَمًا، بل مُحنّكًا ومُثقفًا وفنانًا، أخذ على عاتقه وقف النزعة الاستسلامية، وقرّر مقاومة النازية، في ظل ميزان قوى مختل؛ وعلى الرغم من ذلك، لما انتصرت بريطانيا في الحرب، أقصاه الناخبون عن الحكم لأنهم كانوا يريدون الخروج من اقتصاد الحرب المُتقشّف إلى اقتصاد السلم الرحراح.
وليس الإلهام قطعًا ما دفع الجنرال شارل ديغول إلى رفض الاستسلام، بل الإيمان بقدرة الشعب الفرنسي على تجاوز الهزيمة، والثقة بالإرادة التي تستطيع أن تُكَتِّلَ أسباب الصمود، واليقينُ باستجابة المقاومة الشعبية التي جعلت الوجود النازي فائق التكاليف. أسَّسَ الجمهورية الخامسة، فلما خذله الاستفتاء اندفع إلى الاستقالة فالانزواء، كأي إنسانٍ عادي. أما عندنا فحكّامنا المُلهَمون صالحون لكل عصر وأوان، وموقعٍ ومكان، مهما أنزلوا بنا من دَعَةٍ أو هوان.
وإذا كان الشيء بالشيء يٌذكر، فإن الرئيس سعد الحريري، ومن جاراه في خيار التسوية لم يكونوا إطلاقًا من أهل الكشف وشخوص الوحي، ذلكم أن الوحي ينزل على الرُّسُلَ صافيًا رقْراقًا، وقد انقضى عصر الرسل؛ ويشاغل أَخْيلَةَ الفنانين، وليسوا هم منهم. فالخيارات السياسية عمل بشري صرف مرهون بحسن التقدير، وخاضع للتقويم الواقعي على ضوء ما يصيب الناس بالنفع أو الضرر.
وأعجب ما في أمر العرب، أن القيادات “التقدمية” والحزبية على السواء، اكتشفت في نسلها وذرّيتها بعثًا لفكرة العائلات المقدسة من خلال إنتاج الجمهوريات الملكية والأحزاب الوراثية، في الوقت الذي تخلَّى فيه من بقي من ملوك الأرض، عن السلطان والصولجان واكتفوا بالألبسة المزركشة يرتدونها في المناسبات، علامة على رضوخ التقاليد الملكية لأحكام الديموقراطية ومبادئها ونصوص الدساتير والقوانين.
أسوق هذه الأمثلة كلّها لأبيِّن للقارئ مدى انفصال بعضِ قياداتنا عن فهم مبدأ المُساءلة، ولو الذاتية، في معرض ممارسة العمل السياسي. فإن كثيرًا من هؤلاء لا يرتضي أن يعترف بفشلٍ أو تقصير أو غلطٍ في التقدير، ويأبى أن يخضعَ خياراته لعملية نقدية موضوعية يستدلُّ بنتيجتها على مكامن الصواب والخطإ في ما أتاه. من هنا، لا أستغربُ أن ديبلوماسيًّا عربيًّا كبيرًا قال لغبطة البطريرك بشارة بطرس الراعي: “نحن ننتظر يوم الأحد بشغف لسماع عظاتكم الوطنية”، فإن الخطاب السليمَ، على ما يبدو، فرَّ من ألسنةِ السياسيين وأصبحَ نزيلَ عظاتِ الأحد وخطب الجمعة. وهذا يدعوني إلى أن أروي بعضًا من حديث متروبوليت بيروت سيادة المطران الياس عودة، عندما كنتُ في زيارته منذ أيام بمعيّة الرئيس فؤاد السنيورة والدكتور طارق متري والدكتور عاطف مجدلاني، فلقد كان مُفعمًا بالغضب الإنساني إذ قال:”إن الله بعث برسله ليستمع الناسُ إليهم؛ فلما تركوا الأرض راح الناسُ يستمعون بعضهم إلى بعض ويتداولون في شؤونهم”؛ فكأنه يسألُ: لماذا في لبنان لا نستمع للرسلِ ولا بعضُنا لبعض؟ وأصحاب السماحة اعتصموا بمصالح الناس المرسلة عملًا بقاعدة “حيث تكون مصالح الناس، ثَمَّة شرع الله”، وهذا يدل على أن النفخ في نار الحصص الطائفية لن تستجيب له ألسنة اللهب، لأن اللبنانيين يعرفون جيدًا أن “الملْهَمين” المزعومين لا يحسّون بهم ولا يجوعون مثلهم، ولم يخسروا ودائعهم، ولذلك يَتَلَهَّوْن بمسألة تأليف الحكومة، كاللاهين في العبث، فلا ينشغل لهم بال ولا يشعرون أن الفراغ الحكومي يُعادل آخر إجراءات إفراغ الدولة من مقوّماتها.
في محادثة قبل شهور مع سفير عربي مُحِبِّ للبنان جدًّا، وخبير مزمن في شؤونه، ومن أهل الحصافة والثقافة، قال: “أنتم تنتظرون الاستحقاقات الإقليمية والدولية، التي تتراخى إلى زمن غير محدود، فيما لا تستطيع الدولة أن تصمد لمدة أسابيع”. فذكّرني بأن لبنانَ، أولَ جمهورية ديموقراطية في الشرق العربي، بات يتسكّع على أبواب نتائج الانتخابات في أميركا وإسرائيل وإيران وحتى سوريا، فيما ينتهك القيّمون عليه الاستحقاقات الدستورية إلى درجة الجريمة. وعقَّبَ على هذا بالإشارة إلى أن كثيرًا من الطبقة السياسية تتعاطى مع استعصاء تشكيل الحكومة كَعَرضٍ لِعِلَلٍ أخرى، داخليةٍ من مثل تأمين حكومة صالحة للتعطيل في لحظة تعذّر انتخاب رئيس جديد، أو خارجية كالملفِّ النووي الإيراني، وما سيسفر عنه اتفاق افتراضي مع الأميركيين من تقسيم نفوذ في المنطقة. وعلى هذا، فإن المسؤول، أكان مُلهَماً أو آية من السماء، الذي يشخّص مرض شعبه العضال على أنه عَرَضٌ لأمراض أخرى خارجة عن جسمه، ويمنع العلاج، مُفضّلاً حاجات “النخب” على حاجات عوام الناس، يستحق لقب “عدو الشعب”، لأن الرائد لا يكذب أهله كما قال الرسول العربي.
لقد فَقَدَ لبنان صفتين استدعتا اهتمام المجتمع الدولي به، الأولى أنه كان بؤرة نزاع إقليمي، فيما الهدوء يعمّ الإقليم، والثانية أنه كان المركز المصرفي والمالي الرئيس في المنطقة، أما الآن فقد خمد القتال في لبنان واحتدم في الإقليم، وانتقلت الأهمية المالية إلى دبي والقاهرة والمنامة. فبات من واجب اللبنانيين أن يسعوا إلى الاتصال بالعالم الذي نأى بنفسه عنهم، وأن يجبروا الحضرة السياسة على تأليف حكومة هي الدواء الوحيد للمرض المتفشي الذي يجري تجاهله ممن تناولوا جرعات كافية من لقاح مضاد للحس الإنساني، والانتماء الوطني، والتفكير الراجح.
إِن صمام أمان القيادة السياسية، يكمن في الاستجابة لحاجات الشعوب، وفي اشراكها في رسم السياسات، حتى لا تكون تبعة الفشل من مسؤولية الفرد الذي ركب “المقامرة” ووضع مال الناس رهن لعبة الإلهام الكاذب المعروفة النتائج.
لم تعد الدول تُحْكَمُ بخطاب يطلقه القائد ويقول فيه: “ثقوا بي”، لأن الثقة تكتسب من البرامج الواقعية ومن استلهام الخطة الصحيحة المناسبة للظروف الموضوعية والإقليمية، وعليه فإن الدعوة اللاواقعية إلى البقاء في حالة استنفار دائم وفق نظام مرصوص على أبواب الأفران ومحطات الوقود وآلات المصارف، من اجل هزم الامبريالية، هي دعوة خارجة عن نطاق الوحي والإلهام، بل مُغْرِقَة في الطلاسم والإبهام.
إن معظم المتابعين للمعضلة اللبنانية عن كثب، لاسيما الصحافيين، يلفتون إلى أن مبعوثي الدول وسفراءها الذين يسعون بين القصر والعصر، منذ الانفجار المساوي للخيانة الوطنية، وحتى يومنا العقيم هذا، لا يخفون ذعرهم من النتائج التي يمكن أن تنجم عن دُوَار الإلهام ودوخة استعادة الماضي، والعمى السياسي الذي أشار إليه وزير الخارجية الفرنسي أخيراً.
قال الشاعر الكبير احمد عبد المعطي حجازي في قصيدة بعنوان “البطل”:
لو كان قِدِّيساً، حِصانُهُ القَمُرْ
وسيفُه يدُ القضاءِ والقدَرْ
يأتي إلينا فجأةً، بلا أَوَانْ
وَيختفي في اللَّامَكَانْ
لما تَغَنَّيْتُ به، لما تَحَرَّكَ اللِّسَانْ
لأنَّني وَهَبْتُ شَعْري لِلْبَشَرْ
إني أُغَنِّي لِلَّذي رأيتُهُ، ….. يَوْمَ الأَماني مِثْلَه يَوْمَ الخَطَرْ
رأيتُه الإنسانَ أصْفى ما يكونْ

  • رشيد درباس، وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقاً نقيباً لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى