سوريا: عَشرُ سنين من الحروب، هل حانَ وقتُ السلام؟

بقلم ناصيف حتي*

سنواتٌ عشر مرّت على “المأساة  السورية”، وهو ما يتّفق الجميع بشكلٍ عام على وصف الوضع الذي آلت إليه سوريا بعد عقدٍ على انطلاق “الربيع العربي” والتقييمات المختلفة لنتائج هذا “الربيع”، وهو موضوعٌ آخر. هناك من تحدّث عن ثورة، أو عن انتفاضة، أو حراكٍ خُطِفَ أو حُوِّل عن مساره لمُسبّباتٍ خارجية وداخلية. وهنالك في الجهة المقابلة، من اعتبر أنها كانت مُجرّد “مؤامرة كونية ضد سوريا“، مُتجاهِلين عناصر موضوعية وراء ما حصل في آذار (مارس) ٢٠١١.  ولكن لا يُمكن أن يختلفَ اثنان حول أن موقعَ سوريا في الجغرافيا السياسية المشرقية والشرق أوسطية هو الجاذب لكافةِ أنواعِ التدخّلات الدولية والإقليمية خصوصاً عندما يُفتَح الباب على مصراعيه لذلك التدخّل. فالصراعُ على سوريا (وهو عنوان كتاب  للصحافي البريطاني باتريك سيل صدر منذ خمسة عقود ونصف) لا يتغيّر. فاللاعبون يتغيّرون وعناوين وشعارات التدخّل تتغيّر، لكن لعبةَ الصراعِ على المستويين الدولي والإقليمي على الموقع السوري في الجغرافيا السياسية للإقليم لا تتغيّر. “مسار جنيف” الأُممي لم يؤدِّ الى نتيجة، وحلّ محلّه في الواقع مسار أستانة الذي جمع الثلاثي الفاعل على الأرض (روسيا الإتحادية وايران وتركيا) بتحالفاته وتفاهماته المُتقاطعة دولياً وإقليمياً. وانطلقت “منصّة ثلاثية” جديدة منذ أسبوع في الدوحة تضمّ الى جانب قطر، كلاً من روسيا وتركيا، بهدف الإسهام في التوصّل إلى حلٍّ سياسي دائم للازمة السورية، ودعم دور اللجنة الدستورية في هذا المجال من خلال دعم دور  مبعوث الأمم المتحدة في هذا الخصوص.

على الأرض هناك صراعُ نفوذٍ حول المستقبل، أو حول طبيعة التسوية عندما يحين أوانها:

  • في شمال سوريا، الذي هو أولوية أمنية تركية بهدف منع قيام “دويلة تركية” في  شمال شرقي سوريا قد تتحوّل الى كردستان سورية عندما يحلّ السلام، ويدعم أنقرة في ذلك شريكاها في مسار أستانة.
  • في الغرب السوري على المتوسط، هناك سباق تنافسٍ روسي-إيراني بدأت تظهر ملامحه، حيث تريد طهران موقعاً استراتيجياً على البحر المتوسط، فيما تعتبر موسكو أنه “منطقة نفوذ روسي” أساسية لها على المتوسط.
  • في الجنوب الغربي، هنالك تفاهمٌ إقليمي غربي-روسي-إسرائيلي على عودة الوضع إلى ما كان عليه منذ اتفاق فصل القوات بين سوريا وإسرائيل في العام ١٩٧٤ وحتى آذار (مارس) ٢٠١١: وقف إطلاق نار، وهدوءٌ كامل في هضبة الجولان. وقد عملت روسيا على هذا التفاهم من خلال علاقاتها مع اسرائيل، كما يشهد على ذلك عدد القمم التي عُقدت بين الطرفين. وكافة المؤشّرات تدلّ على أن هناك توافقاً كلّياً روسياً-سورياً في هذا المجال للعودة  الى السياسة السورية التي كانت قائمة قبل “الحروب السورية”، وهي ورقة أساسية في يد السلطة السورية في مسار التسوية السلمية السياسية. وتبدو هذه إحدى نقاط الخلاف الرئيسة بين الحليفين: إيران من جهة وروسيا من جهة أخرى. حيث تريد الأولى الإمساك بهذه الورقة الاستراتيجية الأساسية في “مسرح الصراع” العربي-الإسرائيلي.
  • أمّا في شرق الفرات، فالمعركة أساسية حول الإمساك بهذه المنطقة الاستراتيجية، منطقة العبور من العراق الى سوريا. فمنطقة البوكمال الحدودية تُعتَبَر جسر عبور النفوذ الإيراني من طهران الى شاطىء المتوسط، فيما تحاول واشنطن وحلفاؤها تحويل المنطقة، الغنية أيضاً بالطاقة والزراعة، إلى حائطٍ أو سدٍّ أمام تمدّد النفوذ الإيراني.

وعلى صعيدٍ آخر، يبدو أن هناك عودة عربية ما زالت خجولة وبسرعاتٍ وأشكالٍ وشروطٍ مختلفة نحو تطبيع العلاقات بشكلٍ تدريجي مع سوريا بغية إحداثِ توازنٍ على الأرض مع النفوذ الإيراني واحتوائه. كما تودّ دولٌ عربية وقف التمدّد التركي أيضاً في شمال وغرب سوريا، عبر هذه العودة. فالقوّتان الإقليميتان استفادتا من غيابِ أيّ دورٍ عربي فاعل في “المسرح الاستراتيجي“ السوري. يجري كل ذلك في إطار التحضير لإعادة سوريا الى جامعة الدول العربية من دون أن يكون هناك أفقٌ زمني مُحَدَّد لهذه العودة. وتلعب روسيا دوراً أساسياً في الدفع بهذا الاتجاه. وما يُشجّع ويدفع بهذا الاتجاه أيضاً أن هناك معادلة استقرّت في”المسرح الاستراتيجي” السوري، بعد عقدٍ من الحروب المُختلفة في سوريا، قوامها أن النظامَ لم يخسر الحرب، لكنه لم يكسب السلم .

فالشروط والعوامل التي تُساهِمُ في صنعِ السلامِ الوطني والمُجتَمَعي، وما تحتاجه من سياساتٍ وقُدراتٍ مُوَظَّفة لهذا الأمر تختلف عن العوامل التي ساهمت في منع خسارة الحرب. كما أن الدور العربي يبقى أساسياً في هذا المجال، بالطبع، إلى جانب الدور الدولي. كما تزداد لعبة التنافس على تعزيز النفوذ في سوريا، وتتداخل فيها (تقاطُعاً وتصادُماً) مصالح حلفاء وخصوم بشكلٍ عام، ووفقاً لكل “ملف”. هذا الأمر يُضفي مزيداً من التعقيدات على المشهد السوري. فيما يستمر الإنهيار السوري والكلفة الإنسانية الهائلة لهذا الانهيار، كما يدل على ذلك الازدياد في أرقام النزوح واللجوء، وارتفاع وتفشّي معدّل الفقر والبؤس.

السؤال: هل يبقى الإنتظار سيّد الموقف إلى أن تُحسَم المواجهة القائمة في الشرق الاوسط عبر تفاهمٍ دولي إقليمي (عربي أساساً) لتسوية النزاعات القائمة والمُترابطة عبر مصالح الأطراف المؤثّرة، باعتبار أنه لا يُمكن لأيِّ طرف، كما يتمنّى البعض، أن ينتصرَ بالضربةِ القاضية. تفاهمٌ يقوم على عناصر واضحة تستند إلى القواعد والمبادىء والأعراف الدولية المعروفة والمُستقرّة في ما يخصّ إدارة العلاقات بين الدول؟

وهل يبقى العرب، وهم مَعنيّون بمصالح حيوية وطنية لدولهم وإقليمهم، في موقفِ المُتفرّج أم يعملون على بلورة سياسة مشتركة في الحدّ الأدنى المُمكِن الذي يخدم مصالحهم الوطنية. سياسةٌ تؤدّي إلى اضطلاعهم بدورٍ فاعل. دورٌ، لا يهدف الى إلغاءِ دور الآخرين، ولكن للمساهمة الفاعلة في تسوية صراعات المنطقة بأشكالها المختلفة، وفي مواكبةِ واحتضانِ عملية صنع السلام الشامل في سوريا، التي يجب ان تكون أساساً مسؤولية سورية تُشارك فيها كافة الأطياف السياسية السورية؟ إن سياسة البقاء على الهامش والتأييد عن بُعد، أمرٌ، كما دلّت كل التجارب، غير مُفيد. وهذا درسٌ يجب أن تستفيد منه كافة الأطراف العربية المَعنية بأمنها الوطني والإقليمي.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقاً المتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقاً رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار”- بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى