أوقفوا تسويق مجلس النَّقد!

بقلم الدكتورة نيكول بَلّوز بايكر والبروفسور مارون خاطر*

منذ انزلقت الأزمة بلبنان إلى المحظور، وأمام كل موجة تدهورٍ لسعر الصرف، يعود موضوع “مجلس النَّقد” بقوَّة الى الواجهة الإعلامية ليتسلّل منها إلى مُنتديات الاقتصاد والسياسة. في كل مرَّة، تتولى جهةٌ محليَّة التسويق لتسجيلٍ آتٍ من وراء البحار يبدأ صاعقاً بتشخيصه وينتهي مُلتبساً بنتائجه وبأهداف ناشره وداعميه. بالأساس، لا يمكن أن يكون للنقدِ طبيبٌ مُتخصّصٌ وعلاجٌ كَونيٌّ وحيد ومُستَنسَخ. مَن يَمرَض فعلاً هو الاقتصاد، فإن طاب، تعافى النقد. أما أطباء الإقتصاد فعليهم بالتشخيص والعلم والثقافة والتواضع والخَلق والتحرّر من الوعود والقيود سبيلاً وحيداً إلى الإقناع. يعود نجاح “مجلس النَّقد” في بُلدانٍ مُعَيَّنة كما فشله في بلدان أخرى إلى خصائص اقتصاد هذه البلدان، مما يلغي إمكانية اعتماده كمنتجٍ علاجيٍّ موحَّدٍ وشامل. لذلك فتسويقُه كحلٍّ سحريّ وفوريّ يُعدُّ مغامرة خطيرة ومُريبة في أهدافها ونتائجها.

يُعَرِّف صندوق النقد الدولي “مجلس النَّقد”(Currency Board) ، أو “مجلس العملة، على أنه ” نظامٌ نقدي يرتكز على التزامٍ قانوني يُثبِّت سعر صرف العملة المحليَّة ويفرض قيوداً على سلطة الإصدار”. يتولّى “مجلس النَّقد” إصدار العملة بعد تأمين تغطيتها بالكامل باحتياطي من عملةٍ أجنبية مُحدّدة تُسمّى “عملة الربط”، تاركاً رسم السياسة النقديَّة لقوى السوق التي تمتلك العملة الورقيَّة والودائع لدى المصارف. الحاجة إلى الخبرات وغياب المصداقية وضغوطات المُضاربة والتضخّم كانت الدافع الأساس لاعتماد بعض البلدان “مجلس النَّقد”. عُرِفَ عن “مجلس النَّقد” تميُّزُه بالبساطة التشغيلية والفاعلية في معالجة ارتفاع التضخم، كما في ضبط الإنفاق الحكومي وفي بناء المصداقية والثقة. يذهب بعض الدراسات الى اعتبار “مجلس النَّقد” عاملاً مُشجّعاً للاستثمار ولجذب رؤوس الأموال ودافعاً لخفضِ عجزِ الحساب الجاري لميزان المدفوعات. في مقابل هذه المميزات، يُعاني “مجلس النَّقد” الكثير من العيوب البنيويَّة والتطبيقيَّة التي أدَّت إلى تراجع اعتماده وإلى حصر استعماله ضمن أُطُرٍ محدَّدةٍ جداً.

أما في لبنان، فلا يُمكن أن يُشكِّل “مجلس النَّقد” حلاًّ للأزمة، ليس بسبب عيوبه البنيويَّة والتطبيقيَّة فحسب، بل لأن الكثير من مميِّزاته لا تتلاءم مع الواقع السياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ والنقديّ والاجتماعيّ للبنان. مِن ناحيةٍ ثانية، بالإضافة إلى سوء توقيته، ينطوي الطَّرح المُسَوَّق على الكثير من المغالطات النظريَّة والعمليَّة التي تُشكِّل حاجزاً جِدّياً أمام تطبيقه. في سياقٍ مُتّصل، تجدر الإشارة إلى أن إحدى دراسات صندوق النقد الدولي ركَّزت على عدم التثبّت من إمكانية نجاح “مجلس النَّقد” في جميع الدول. شدَّدَت هذه الدراسة أيضاً على ضرورة معالجة الأزمات المصرفيَّة للدول قبل البحث في تغيير السياسات النقديّة المُعتَمدة. يتطلَّب ذلك وجود مؤسساتٍ ذات كفاءة ومصداقية عالية، وهي إن وجدت تُلغي الحاجة إلى “مجلس النَّقد”.

إنطلاقاً مما تقدّم لا يُمكن أن يكون “مجلس النَّقد” حلّاً في بلدٍ يُعاني قطاعه المصرفيّ انهياراً مشهوداً. فهذا الطرح يُجرِّد المصرف المركزي من مهامه التقليديّة. نتيجةً لذلك، فهو يَضَعُ القطاع المصرفيّ المُحتَضِر في مواجهة مباشرة وقاتلة مع نتائج غياب السياسات النقديَّة، وانعكاسات تقلُّبات معدلات الفوائد المتأثرة بعملة الربط، ومنع المصرف المركزي من امداد المصارف بالسيولة. أضف الى ذلك أن “مجلس النَّقد” المُسوَّق يَلحَظ تغطية كاملة للمطلوبات النقديَّة للمصرف المركزي بالليرة فقط عبر استعمالٍ غير قانوني للإحتياطي الإلزامي المُتهاوي أصلاً. إلّا أن التحويل المُحتَمَل للودائع المُحتَجَزة إلى الليرة بُغية استبدالها سيُفضي إلى زيادةٍ حتميَّة لحجم الكتلة النقديّة فيتآكل الإحتياطي ثمَّ تُستَنفَذُ السيولة وينهار المجلس والإقتصاد معاً (كما حصل في الأرجنتين). من جهته، سيؤدِّي وضع أيّ قيودٍ على عمليّاَت السَّحب والتحويل الى ضرب الثقة بمجلس النَّقد وإلى اشتعال السوق السوداء من جديد. أمَّا الكلام عن حلٍّ يستثني كارثة الودائع المُقَوَّمة بالدولار أو على تهافت غير مسبوق على التحويل إلى الليرة فيفتقد الى المنطق. تؤكد هذه المعطيات استحالة اعتماد “مجلس النَّقد” كحلٍّ سحريٍّ عاجل يسبق التوزيع العادل لخسائر المصارف وإعادة هيكلة القطاع المصرفي اللبناني.

إقتصادياً، يرتكز طرح “مجلس النَّقد” بِنُسخته اللبنانية على قراءةٍ خاطئةٍ لمقاربة ميلتون فريدمان  (Milton Friedman)النقديَّة التي تعتبر أن زيادة مؤشّر الأسعار سببه ازدياد حجم الكتلة النقدية في غيابِ النمو. لذلك فأن السيطرة على حجم الكتلة النقديَّة، وإن كان يؤدي إلى استقرار مؤشّر الأسعار، فانه لا يُحفِّز النمو، بل إنَّ زيادة الكتلة النقدية يجب ان تكون مُتلازمة مع النمو. بناءً على ما تقدَّم، لا يُمكن لأي معالجة للأزمة الاقتصادية أن تنطلق من اعتبارِ سعرِ الصرفِ مُسبّباً لها. فتدهور سعر الصرف ليس إلّا نتيجة لهذه الأزمة التي سبَّبَها عدم الاستقرار السياسي والأمني وتغييب دولة القانون واستشراء الفساد وعدم كفاءة الحكومات المُتعاقبة وغياب التخطيط. إن ما أوصل لبنان إلى ما هو عليه اليوم ليس ارتفاع سعر الصرف بل خطف الدولة وقرارها وقيام دويلات داخل حدودها مما يمنعها من بسط سيادتها على كامل اراضيها ومن ضبط معابرها. ليست أزمة لبنان نقديَّةً أو حتى اقتصادية ومالية، بل سياسيةً بامتياز. ما نعيشه اليوم هو نتيجةٌ لخياراتٍ سياسية عَزَلَت لبنان عن العالم وقوَّضَت معالم الدولة وأطلقت العنان للفساد وأدّت الى استنفاد الدولار. من ناحية ثانية، لو كان التحكّم بسعر الصرف حلاً للأزمات الاقتصادية، فكيف يُفسِّر أصحاب العلم والشأن الركود الاقتصادي الذي عانت منه اليونان بعد أن دخلت منطقة اليورو حيث باتت لديها عملة مُوَحَّدة؟ ألم تذهب اليونان في ما فعلت أبعد من “مجلس النَّقد”؟

إقتصادياً أيضاً، مَن يُقرّر عملة الرَّبط؟ وهل الوقت مُناسبٌ أصلاً لربط الاقتصاد بعملة واحدة؟ إنَّ أيّ ارتفاع لقيمة عملة الربط يُسبِّب ارتفاعاً في كلفة الإنتاج المحلّي ويُشكّل عائقاً أمام التصدير بسبب ضربه الميزة التنافسية المُنخفضة أصلاً بسبب شحّ المواد الأوّلية. قد يُساهم الارتفاع في قيمة عملة الربط في الحدّ من التهريب، إلّا أنه يضرب جميع مقوّمات الاقتصاد الحقيقي من زراعة وصناعة وتجارة. قد ينجح “مجلس النَّقد” في تخفيض العجز ولجم الفساد (ولو جزئياً)؛ إلَّا أنَّ غياب السياسة النقدية يلغي القدرة على تخفيض البطالة وتحفيز الاقتصاد. من ناحية ثانية، أيعقل أن يرتكز إنشاء “مجلس النَّقد” على الإحتياطي الإلزامي لمصرف لبنان بما يُخالف الإنتظام العام؟ وإن لم يكن كذلك، فكيف لدولةٍ مُستورِدة وعاجزة أن تؤمِّن تدفقاتٍ نقديةً فائضة تستعملها لتغطية العملة؟ نسأل أيضاً، كيف لبلد يفتقر إلى أدنى مستويات الجودة المؤسسية والحَوكَمة والإستقرار السياسي وسيادة القانون أن يجذب الإستثمارات؟ نتساءل أخيراً، كيف يجرؤ عاقلٌ على طرح تعويم الليرة لمدة شهر في بلدٍ تهوي عملته بوتيرةٍ يومية؟ فعلى أيّ معدَّل تضخّم سيستقِر الإقتصاد إذا استعملنا نظرية فريدمان نفسها؟

أمَّا قانونياً، وإذا كان لا بدّ من تعديل على قانون النَّقد والتسليف، فلنُعدِّل نصّ المادة ٩١ ونُلغي إمكانيّة إقراض الحكومة “في ظروفٍ استثنائية الخطورة وفي حالات الضرورة القصوى”، بدلاً من أن ننسف نظامَنا المصرفي. ما الذي يُبرّر تقويض استقلاليَّة المصرف المركزي وما الذي يدفعنا للإعتقاد أنَّ مَن لا يحترم هذه الاستقلاليَّة سيحترم شروط “مجلس النَّقد”؟ تُشكِّل استقلاليَّة المصرف المركزي إحدى الركائز الأساسية “لإطار العمل الجديد لتعزيز مشاركة صندوق النقد الدولي في الحَوكَمَة ومكافحة الفساد”، والتي تهدف إلى جعل المصرف المركزي أكثر مصداقيَّة. إن ترسيخ الاستقلالية القانونيَّة والفعليَّة للمصرف المركزي عبر إقرار إصلاحات مالية ومصرفية، يضمن الإبقاء على المرونة في معالجة المشاكل المُتعاقبة والمُتعَدّدة. تُشكِّل هذه الاستقلالية ضامناً لعَدَم خطف القرار المالي والنقدي كما خُطِفَ القرار السياسي والسيادي. نُشير في سياقٍ متَّصل الى أن صندوق النقد الدولي عارَض بشدَّة اعتماد “مجلس النَّقد” في إندونيسيا لاعتقاده أنه يساهم في تعزيز الديكتاتوريَّة وهي ذات أشكال متعدِّدة. أما الذين يَرَونَ في “مجلس النَّقد” حلاً فورياً فعليهم أن يُدركوا أن التصويت على تحويل لبنان إلى دولة مدنية قد يستغرق وقتاً أقل من إقرار “مجلس النَّقد” في الهيئة العامة!

  • الدكتورة نيكول بَلّوز بايكر هي باحثة وكاتبة في الشؤون الإقتصاديَّة. والبروفسور مارون خاطر هو باحث في الشؤون الماليَّة والإقتصاديَّة. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @ProfessorKhater
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى