تلك الليلة “الفيلوكاليَّة” على شط جبيل

المشهد العام (135شخصًا) على مسرح مهرجان بيبلوس (عدسة نبيل اسماعيل)

هنري زغيب*

اليدُ التي ترتفع كي تبتهلَ إِلى السيِّدة العذراء في دير “سيدة الزيارة” (عينطورة كسروان – مقر جمعية ومعهد “فيلوكاليَّا”)، ارتفعَت على مسرح مهرجانات بيبلوس كي تقودَ جمعًا كبيرًا من 135 شخصًا بين أُوركسترا موسَّعة وجوقة “فيلوكاليَّا” وفرقة “عشتار” للموسيقى الشرق عربية (التابعة أَيضًا لمعهد “فيلوكاليَّا”) وراقصات ومغنين ومغنِّيات ومغنية مفْرَدَة ومؤَثِّرات بصرية على الشاشة الكبرى فوق المسرح.

إِنها يدُ الأُخت مارانا سعد التي – بكل تؤَدَة ودقّة وحرص محترِف – هيَّأَت هذا العرضَ الغنيَّ مضمونًا واللافتَ شكلًا، ليكون في ليلة جبيل فرحًا آخر ولونًا آخر وحضورًا آخر لجمهور المهرجان على شاطئ مدينتنا الفريدة في العالَـم بإِرثها الحضاري.

صحيح أَن مسرحنا الموسيقي يعرف قائدات أُوركسترا وكورال، وإنْ قليلات بين الرجال قادة الأُوركسترا، إِنما قد يرى البعض غير عادي أَن تقفَ راهبة على المنصة وتقودَ عملًا ليس دينيًّا أَو طقسيًّا بل فيه الغناءُ اللبناني والشرقي الأَصيل والرقص الكوريغرافي المنضبط إِيقاعًا لائقًا وخطواتٍ سائغة. غير أَن ذلك لا يعود خارج المأْلوف حين نعرف أَن رسالة الأُخت مارانا سعد هي جعْل الفن عمومًا والموسيقى خصوصًا في خدمة الجمال، إِذًا في خدمة الله الذي هو مصدر الجمال. من هنا أَطلقَت على جمعيتها ومعهدها اسم فيلوكاليًّا” (“فيلو” = حب، و”كاليَّا” = الجمال، مثلما “فيلو” = حب، “وصوفيا”= الحكمة، وهي الفلسفة التي أَصل معناها: حب الحكمة).

في انتظام منضبط أَدارت الأُخت مارانا سعد برنامجًا من 90 دقيقة ضم باقة راقية من أَعمال الأَخوين رحباني وفيلمون وهبة وزكي ناصيف وزياد الرحباني ووليد غلمية ومرسيل خليفة وأُسامة الرحباني، وأُخرى من شربل روحانا وإِياد كنعان، إِلى لُمحٍ من عبد الوهاب وسيد درويش والفولكلور الشعبي اللبناني، لتكون الحصيلة أُغنيات شعبية وفولكلورية رائجة ومحبَّبة يعرفها الجمهور بأَصوات فيروز وصباح ووديع الصافي وماجدة الرومي، أَدَّتها أَصوات منفردة من الكورال، شبانًا وصبايا، وختمَتْها كارلا رميا (ضيفة الأُمسية) بأُغنيات طرَّزت السهرة بصوتها العذب وحضورها الراقي.

عنوان العرض: “أَصل الموسيقى”، طرَّزَتْهُ افتتاحية الأُمسية بلوحة موسيقية موضوعة خصيصًا لجوقة “فيلوكاليَّا” وفرقة  “عشتار”، كتبَتْها تانيا صالح ووضع موسيقاها شربل روحانا، وتضمُّ أَنماطًا منوَّعة بين الغناء الشرق العربي والموشح والطقطوقة والموال والفولكلور والموسيقى الدينية.

هذا العرض بضخامته قدَّمَتْهُ الأُخت مارانا سعد في لبنان بعدما كانت طافت به على المسارح الكبرى في العالم بين روما وباريس ونيويورك (مقر الأُمم المتحدة) وبوسطن وفرجينيا وواشنطن وبرلين وبولندا وقبرص، ومدن وعواصم أُخرى أَنِسَتْ إِلى عرض لبناني وشرق عربي بإِعداد مميز يكرس معهد “فيلوكاليَّا” صرحًا فنيًّا للموسيقى (فيه فرع خاص بِاسْم “دار العود”) والرسم والفنون اليدوية، يفتح الأُفق واسعًا لأَعمال راقية تعيد إِلى المستوى الفني العالي أَلَقَه الذي كادت تطمسه أَعمال غير مسؤُولة. ومن الجمهور الذي، قبل أَسابيع، تجاوبَ أَربع ليالٍ متتالية على نغمات العود مع عرض مرسيل خليفة “جَدَل” اشتراكًا مع شربل روحانا عزفًا، والجمهور الذي احتشد مالئًّا جميع مقاعد المدرَّج في ليلة مهرجان بيبلوس، يتضح أَن الحقيقة الفنية تسطع أَبهى حين يتولَّاها مَن يقاربها بمسؤُولية واحترام، وحين يقدِّمها مَن يعرف أَنه يحمل إِلى جيل اليوم إِرث الأَمس وروائعه وأَعلامه. وهو هذا ما تجلَّى عند افتتاح ليلة “فيلوكاليَّا” باسترجاع أَصوات وأَطياف وأَعمال من الكبار الذين سبَقَ أَن مروا على هذا المسرح في ليالي مهرجانات بيبلوس سابقًا، فكرَّسوا لجمهورهم إِبداعًا خالدًا وتكرَّسوا به قممًا مضيئة على الزمان في ذاكرة الفن اللبناني العالي القيمة والنتاج.

هذه الذاكرة، اليوم، تُكرِّس في حاضرها تراثًا لبنانيًّا يعاد ويستعاد، كي يظلَّ نابضًا في البال، بفضل يدٍ ترتفع كي تقود تنفيذَه بالدقة الحرَفية والمسؤُولية المهنية وحُب الجمال للجمال، هي يدُ الأُخت المكرَّسة مارانا سعد.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى