الياس الرحباني… يا أَخي الكثير

بقلم هنري زغيب*

صحيح، الياس؟

صحيح تعرف أَن تموت؟

لكم كنتُ أَنفي من ذاكرة غَدِنا أَن سيجيْءُ يومٌ ولا أَنت.

كيفما أَفتح ماضينا معًا، منذ 45 سنة معًا، لا أَقرأُ إِلَّا الزَوغةَ التي اسمُها الحياة، الحياة التي كان لها عنوان واحد إِليك: المرح الأَبيض، الأَبيض من نقاء، الأَبيض من ذكاء، الأَبيض من وفاء، ولم يكن ثالثًا بيننا إِلَّا الوفاء.

يا أَخي الكثير يا الياس،

بين جلساتنا الثنائية وتلك العامة مع السوى، كان يجمع بيننا حسٌّ واحد: حب الحياة.

وحين كانت كلمات قصائدي ترتاح بين أَناملكَ على الـﭙـيانو،كانت تخرج من لحنكَ وفيها نكهةُ الفرح قبل مذاق الميلوديا.

في بالي تلك الـمُطايبات يا الياس. في الرفاق أَنت لولبُها، وفي الشخصي مُواجدُها أَنت.

وكنتَ لي ما كُنتَه لأَولياء الإِرث. وجميعُهم كانوا يَرَون إِليكَ الشفق الباقي للمملكة الرحبانية.

جميعهم. أَنتَ “عمي الياس” لأَبناء منصور: مروان، غدي، أُسامة، و”عمي الياس” لزياد وريما، وأَنتَ “خالي الياس” لبشارة الخوري الذي تعهَّدتَه بعد غياب سلوى وعبدالله.

وكنتَ الشفقَ الباقي تتنسَّم فيك كبيرتُنا فيروز أَصداء صمتها العبقريّ يرجِّع لها صوت وحيدها الغالي عاصي وصدى منصور.

وكنتَ الشفقَ الباقي لإِلهام تَرى إِليها مرتين: أُولى شقيقةً حدَّك، والأُخرى خيالًا حيًّا من أُمّ عاصي.

وكنت الابن الثالث للغالية نينا، نينا السهرانة طيلة أَيامها على غسان وجاد، وعلى ثالثهما أَنت، يا الحبيبَها أَنت ورفيقَ السنوات الصالحة والمالحة. نينا التي كانت ذِكْرك على مدار الثواني وذاكرتَكَ على مدار الأَيام.

يا أَخي كثيرًا يا الياس،

ذاكرٌ يوم غياب منصور، قولَك لي: “راح عاصي. واليوم راح منصور. بعد باقيلي إِنت. لا تتركني”.

وطبعًا لم أَتركك. ولن. ولو منذ غيابك القاهر اليوم. وكيف أَتركُ غيابَكَ، وحضورُك كان لي مرآة أَملي بأَن العطاء العالي في لبنان مرصودٌ عليك، وعلى قلَّة ضئيلة مثلكَ في هيكل الفن اللبناني.

غريبة يا الياس هذه المصادفة (هل هي حقًّا مصادفة؟ أَم قدَر مكتوب؟): في آخر عشاءٍ لي مع منصور، ليلةَ الميلاد الأَخير قبل رحيله، وكنا وحدنا خلف شبابيك بيته الحُمر، قال لي: “أَنا ما عدت مطوِّل. خلِّيك حدّ الياس. الياس رقيق وما بيحمل”.

وأَنتَ، بعدها بأَيام: “لا تتركني”؟ قلت لي يوم غياب منصور.

وها أَنت تركتَني. والتحقْت بعاصي ومنصور كما لتكتُبوا معًا “رحيل الآلهة” من جديد.

تركتَني. ولم يعُد لي سوى غيابِك.

هل ينبض الغياب يا الياس؟

منذ أَنتَ، سـأَتعلَّم كيف أَقرأُ الغياب بأَبجديةٍ أَتهجَّأُها من حروف محبتك، “يا سيِّد الحزن الكبير” كما سمَّاك منصور يوم تكريمكَ.

كنا معًا… وكم كنَّا معًا، تتطاير ضحكاتنا وسْع آفاق الحياة، وكنا نحسب الحياة دائمةً لنا ما دمتَ تزيدها فرحًا بحيويَّــتكَ.

لَـهَونا كثيرًا وسْع تلك الآفاق، حتى نسينا أَنْ قد نصطدم بأُفق مغلَق.

نسينا أَن نحسب حسابًا للموت.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره افتتاحيةً على الصفحة الأُولى من صحيفة “النهار” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى