الصين تُصبح أكبر اقتصادٍ في العالم بعد خمسِ سنوات ولكن…
بقلم كابي طبراني*
لم تمنح الأسابيع الأخيرة من العام 2020 أي راحة لخبراء الإقتصاد في العالم، الذي كان على الأرجح أكثر أعوامهم إرهاقاً وقلقاً على الإطلاق. ندخل العام 2021 بأخبارٍ عن صفقة خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، واستراتيجيات وطنية مُتباينة للتعافي بعد كوفيد-19، والتسارع الحاد للإتجاهات الاقتصادية التي كانت موجودة من قبل، والتي زاد الفيروس من حدّتها. وإضافة إلى الأخبار المالية السيئة التي حملها هذا العام، يُقدِّم “مركز أبحاث الإقتصاد والأعمال” (Centre for Economics and Business Research) البريطاني، خمس سنوات التاريخ الذي يَتَوَقّع فيه أن تتفوّق الصين على الولايات المتحدة كأكبر اقتصادٍ في العالم.
لا شك أن هذا الأمر سيُقلق الكثيرين في واشنطن. إن الحجم الإقتصادي هو أحد أفضل المقاييس الفردية للحكم على التأثير الإقتصادي والمالي للبلد. لقد كان من المتوقع منذ بعض الوقت تجاوز الصين لأميركا اقتصادياً، ولكن ليس بهذه الوتيرة. إن هذه السرعة هي إثباتٌ كبير لاستراتيجيات بكين الإقتصادية قصيرة وطويلة المدى. ربما يرجع السبب الرئيس وراء هذا التقدير الأخير المُنَقَّح إلى نجاح الصين السريع في التغلب على الوباء وإعادة بناء اقتصادها. لكنه يتوافق أيضاً مع اتجاهٍ طويل الأمد.
منذ الإصلاحات الإقتصادية في العام 1978، التي غيّرت فيها القيادة الشيوعية مسارها وسمحت بزيادة الإنفتاح على الأسواق الخارجية، نما الإقتصاد الصيني في المتوسط بنحو 10 في المئة سنوياً.
في حين أن الحجم كمؤشر على الهيمنة الاقتصادية له دورٌ أساس في كثيرٍ من النواحي، إلّا أنه لا يزال أداة غير كافية. بمفرده لا يُقدّم الصورة الكاملة. يجب أيضاً مراعاة عوامل عدة مثل ديناميكية الإقتصاد، والنظام السياسي، والقدرات العسكرية، وكذلك كيف تلعب القوة الناعمة لأي دولة – جزء كبير من نفوذ الولايات المتحدة في الخارج – دوراً في الإقتصاد. لذلك، لا ينبغي أن تؤخذ هذه الأخبار على أنها إشارة إلى أن الولايات المتحدة قد أصبحت أقل أهمية من الناحية الإقتصادية. بدلاً من ذلك، يشير هذا إلى أن أميركا ستضطر بشكل متزايد إلى مشاركة نفوذها المالي والإقتصادي مع دولٍ أخرى.
سوف ينظر البعض إلى هذا الوضع من منظور المواجهة. ولكن في اقتصاد اليوم المُترابط عالمياً، هناك أسبابٌ وجيهة لاعتباره فرصة للتعاون. لقد تبنّت إدارة الرئيس دونالد ترامب المنظور الأول. في حالة الرئيس المُنتَخب جو بايدن، على الرغم من التشكّك الحالي بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي بالنسبة إلى كل ما يتعلّق بالصين، هناك فرصة لأن تصبح سياسة واشنطن تجاه بكين أقل عدوانية.
من ناحية أخرى، هناك أيضاً الأهمية المتزايدة للبلدان المتوسّطة الدخل التي ينبغي مراعاتها. لم يعد دقيقاً وصف العالم بأنه عالمٌ تتمتع فيه بعض الإقتصادات الكبرى بالكلمة الفصل وبكل الفُرَص. ويبدو أن الصين تُدرك ذلك جيداً وقد ظهر في سياساتٍ مثل مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها في العام 2013، والتي تتضمّن استثمارات ضخمة في البنية التحتية في 68 دولة في آسيا وأوروبا وأفريقيا، بهدف تعزيز التجارة. وقد وقّعت بكين وثائق تعاون لهذه المبادرة مع 17 دولة عربية، وأقامت شراكة استراتيجية شاملة مع 12 دولة منها، ما ساهم في تعزيز التعاون العملي والتبادل الإنساني والثقافي وتوفير قوة دافعة لعملية الإصلاح والتنمية لكلٍّ منها.
على سبيل المثال، شاركت دولة الإمارات العربية المتحدة في المبادرة التي أسفرت في أيلول (سبتمبر) الفائت عن الإعلان عن صفقات استثمارية بين البلدين بقيمة 3.4 مليارات دولار. من هذا المبلغ، تم تخصيص 2.4 ملياري دولار لمحطة تخزين وشحن ضخمة في جبل علي، مُصَمَّمة لتعزيز التجارة بين الإمارات والصين.
وفي المغرب، منذ أن زار الملك محمد السادس الصينَ في العام 2016، إزدادت الإستثمارات والتبادلات التجارية بين البلدين أيضاً. وأضحت المنصّة الأولى لميناء طنجة المتوسط في الشمال الميناءَ الأكبر للحاويات في أفريقيا، متجاوزاً منافسَيه بورسعيد (في مصر) وميناء ديربان (في جنوب أفريقيا). وتُخطّط شركاتٌ مثل شركة الإتصالات العملاقة “هواوي” لتشييد مراكز لوجستية محلية في الميناء. وفي مناسبة الذكرى العاشرة على تدشين هذا المرفق، أعلنت الرباط عن مشروع استثماري بقيمة 10 مليارات دولار أميركي يحمل اسم “مدينة محمد السادس طنجة تيك”، ومن المفترض أن يضم مئتَي مصنع في السنين العشر المقبلة، ليصبح المغرب بذلك المقر الصناعي الصيني الأكبر في القارة.
على الرغم من بروز نظرة عالمية أكثر تصادمية بين الصين والغرب في السنوات الأخيرة، فإن نهجاً أكثر دقّة في درجة الإختلاف يُفضّل التجارة الخالية من الإحتكاك قد يؤدي إلى نتائج اقتصادية أفضل لكلا الجانبين. من غير المُحتمل حلول أو وجود علاقة صافية وخالية من المشاكل تماماً في أي وقت قريب. لا تزال الحكومات الغربية تُعارض عدداً من الممارسات الإقتصادية الصينية، مثل إغراق بكين للصلب المدعوم في الأسواق الدولية، والذي تقول أوروبا وأميركا إنه يُقلّل من أسعار إمداداتها ويُقفل مصانعها.
ومع ذلك، سيكون من غير المناسب تجاهل إمكانية اتباع نهجٍ أكثر تحسّناً وأفضل في حقبة ما بعد ترامب، وهو نهجٌ لن يخشَى ظهور الصين كأكبر اقتصاد في العالم. في عامٍ تعرّض فيه الإقتصاد العالمي لمثل هذه الضربة القاسية والموجعة، أصبح الإنعزال الإقتصادي والشك السياسي من الهواجس التي لا تستطيع دولٌ كثيرة تحمّلها.
ومع الأمل في أن يكون 2021 أفضل من سابقه، نتمنى للعالم ولكم الخير ووضعاً أحسن حالاً في كل المجالات وعلى كل الصعد…
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير “أسواق العرب”. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani