فرنسا: دُعاةُ السِلمِ الذين تَستَفِزَّهُم أوكرانيا

محمّد قوّاص*

إندَلَعَ في فرنسا قبلَ أيامٍ سِجالٌ حولَ تصريحات الوزيرة السابقة سيغولين رويال المُشَكِّكة في الروايات التي تَصدُرُ من كييف حول انتهاكات الجيش الروسي في أوكرانيا. اعتبرت رويال، وهي أحد وجوه الحزب الاشتراكي والمُرَشَّحة السابقة للانتخابات الرئاسية، أن هناك بروباغندا أوكرانية تخويفية يقودها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي هدفها تبرير الحرب وتصعيدها، وبالتالي وقف “عملية السلام”.

أثارت مواقفُ رويال ردودَ فعلٍ غاضبة وشاجبة من قبل تياراتٍ سياسية وجمعياتٍ حقوقية كما من مُؤرّخين وخبراء في الشؤون الاستراتيجية. اضطرت رويال إثر ذلك إلى تقديمِ اعتذارٍ عن أقوالها التي “أُسيءَ فهمها”، مؤكّدةً أنها لم تنفِ أبدًا “جرائم الحرب” في أوكرانيا.

شكّكت رويال في الرواية الأوكرانية حول قصف روسيا لمستشفى للأطفال في ماريوبول في 9 آذار (مارس) الماضي، وشكّكت في رواياتٍ تتحدّث عن عملياتِ تعذيبٍ واغتصاب، مُعتَبرةً أن لا أدلّة بشأن ذلك. خرج عليها الصحافيون بأدلّة نقلها زملاءٌ لهم من قلب الحدث، خصوصًا بشأن مجزرة بوتشا في آذار (مارس) 2022، وبتقارير وتحقيقات قامت بها منظمات حقوقية دولية تؤكد وتوثّق ارتكاب الجيش الروسي “جرائم حرب”.

استغربت أوساطٌ فرنسية مُتابعة للحرب في أوكرانيا أن تضع رويال المُعتَدي والمُعتَدَى عليه في مستوى واحد. ورأى مراقبون أن البروباغندا هي أداةٌ تاريخية من أدواتِ أيِّ حرب، لكنّ هناك فرقًا شاسعًا بين البروباغندا الروسية التي تنفي، وعلى لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وجود أوكرانيا وحقها في أن تكون دولة مستقلة تُدافع عن نفسها، والبروباغندا الأوكرانية الدفاعية التي تتحرّى تعاطفَ المجتمع الدولي.

تطرّقت هذه الأوساط إلى سوابق روسية في اللجوء إلى الوحشية العسكرية سواء في الشيشان أو جورجيا أو سوريا أو حتى في تعامل موسكو مع معارضيها. كما تساءلت الأوساط عن “عملية السلام” التي تتحدّث عنها رويال في وقتٍ لا شيء في خطاب روسيا غير الحرب وفرض الاستسلام الكامل على كييف.

فسّر معلّقون موقفَ رويال تفسيرًا مُرتبطًا بعلم النفس السياسي، مُرَجّحين حاجتها إلى أيِّ ضجيج يتحدث عنها بعد أيام على ظهور رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيت بورن في برنامجٍ تلفزيوني تناولت فيه مسيرتها المهنية وأغفلت الحديث عن عملها مع رويال. وحين مازحها مُقدّمُ البرنامج أنها نسيت عملها مع سيغولين رويال، أجابت: “نعم صحيح لقد نسيتها”. قد تكون رويال لجأت إلى مواقف مُثيرة للجدل لإحداثِ ضجيجٍ حولها والردّ على هذا “النسيان”، لكن مُعلّقين آخرين تحدّثوا عن أسبابٍ إيديولوجية أخرى.

يرى مؤرّخون أن الوزيرة الاشتراكية السابقة هي جُزءٌ من تيارٍ تقليدي عتيق “سلموي” مُناهض للحرب داخل الحزب الاشتراكي، نشط وبرز في ثلاثينات القرن الماضي. وقد ألقى هذا التيار في تلك الحقبة باللائمة على رئيس الوزراء الاشتراكي آنذاك ليون بلوم في تصعيد الحرب، مُقلّلين من أخطار أدولف هتلر وطموحاته.

على رأس ذلك التيار كان بول فور وروبير جوسبان (والد ليونيل جوسبان الأمين العام للحزب الاشتراكي ورئيس الوزراء السابق)، وانتهت النزعة “السلموية” المُناهِضة للحرب بهما إلى الانضمام لاحقًا إلى “نظام فيشي” الموالي لألمانيا النازية التي احتلّت فرنسا. وقد ساهمت الإيديولوجيا المُناهِضة للحرب في مراحل مُتعدّدة من التاريخ الحديث، في انتقالِ تياراتٍ وشخصياتٍ يسارية للعمل في صفوفٍ مُتحالفة مع النازية والفاشية، تحت عنوان تجنّب العنف والتحرّي الدائم للسلام.

واللافت أن رويال سليلة اليسار الجمهوري الديموقراطي المعتدل تقترب في أطروحاتها من تلك التي تبثّها التيارات الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرّف، وتلك للمفارقة التي يدافع عنها اليسار الراديكالي. ولئن تتجنّب تلك التيارات الدفاع عن الموقف الروسي، إلّا أنها وجدت جميعها في أزمات الطاقة والتضخم وما تُسبّبه من قلقٍ اجتماعي، مناسبة للتصويب على “خطَإِ” العقوبات ضد روسيا التي “تدفع أوروبا ثمنها” (موقف اليميني المتطرف الإيطالي ماتيو سلفيني قبل أيام مثالًا)، وتنشيط الشارع وإخراج التظاهرات هنا وهناك تبرّمًا من أثمان حرب أوكرانيا على محفظة المواطنين في أوروبا.

وفي خروج تظاهرات في تشيكيا أو ألمانيا أو إيطاليا وغيرها مُندّدة بموقف حكومات تلك البلدان “التابع للأجندة الأميركية” ورفع شعار “الحرب ليست حربنا”، ما يهدف إلى تصفية حسابات سياسية محلية حتى لو أن فوائدها تصبّ لصالح موسكو. ومع ذلك فإن حجم التظاهرات في تلك الدول يبقى هامشيًا جدًا مقارنة بعدد السكان. ومظاهر المعارضة والاعتراض هي جُزءٍ من الحياة الديموقراطية لتلك البلدان وهي محرّمة في بلد مثل روسيا، وظهور تلك الأعراض إعلاميًا يُغذّي البروباغندا الروسية من دون أيّ تأثيرٍ مباشر، آني على الأقل، على قرارات العواصم ومزاج نخبها السياسية.

يُمثّلُ موقفُ رويال نموذجًا تعوّل موسكو على تعميمه وجعله مُتمدّدًا صوب الأحزاب الكبرى الحاكمة في أوروبا. ولم يوفّر الإعلام الروسي هذه الفرصة فأفردَ مساحاتٍ لإبراز موقف رويال وترجمة تصريحاتها. غير أن الرأيَ العام الأوروبي عامةً مُحصّنٌ وداعمٌ لقرار مواجهة روسيا الذي اتخذته كل المنظومة الغربية ضد موسكو في حربها على أوكرانيا. ولئن يعبّر ذلك الرأي العام عن مواقف تتعلّق بالقوة الشرائية ومستوى المعيشة، فذلك موقفٌ ضاغطٌ على الحكومات لاتخاذِ التدابير الملائمة، مع عدم استبعاد أن العواصم تستفيد من تحركات الشارع (حتى لا نقول إنها قد تقف وراءها) من أجل الذهاب بسياسات الضرورة كتلك التي أدت إلى التخفيف من المعايير البيئية وإعادة تشغيل المفاعلات النووية واستخدام الفحم لإنتاج الطاقة.

فاجأ موقف الاشتراكية سيغولين رويال بيئة اليسار الجمهوري في فرنسا، وصعق هذا الموقف كبار المُثقَّفين الذين قدّموا الدعم لها مرشحة رئاسية في مواجهة اليميني الديغولي نيكولا ساركوزي في العام 2007. لكن هذا الموقف لقي للمفارقة الدعم والتأييد من زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن والمرشح الرئاسي اليميني الشعبوي المثير للجدل إيريك زمور واصفَين مواقفها بـ”الشجاعة”.

واللافت أن مسألة أوكرانيا أزالت كثيرًا من الخطوط بين اليمين واليسار بالمعنى التقليدي وباتت المواقف عائمة مُرتَجَلة فيها كثير من النزق والتسرّع والحسابات الذاتية. وفي المقابل فإن الجبهة الداخلية الروسية ما زالت غير شفافة عصيّة على القراءة لم يتسرّب منها إلّا ذلك الإزدراء الذي تعمّدته موسكو في التعامل مع جنازة ميخائيل غورباتشوف آخر زعيم للاتحاد السوفياتي المندثر.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى