طُقُوسُهم… وُجُوهُهُم على الورق

بقلم هنري زغيب*

في محفوظات “المؤَسسة الوطنية الفرنسية للتراث المرئي والمسموع” حوارٌ مُصَوَّرٌ مع الروائي جان جيونو (1895-1970) قال فيه إِنه يكتُب يوميًّا في غرفته ذاتها، وهذه هي “اللذة القصوى” لديه، وإِنه لا يذكُر يومًا مرَّ ولم يكتب، بالريشة ذاتها، يغُطُّها في الحبر الأَسود، تاركًا المحبرةَ مفتوحةً كي يتأَكْسَدَ الحبر فيها فيزدادَ اسْودادًا كما يُحب أَن يراه على هدب ريشته حين يكتب، ودومًا على ورق أَسمر إِذا افتقدَهُ افتقدَ إِيقاعه ومزاجه في الكتابة. وقبالةَ الصفحة الجديدة أَمامه: دفترٌ صغيرٌ يكون دَوَّن عليه أَفكارًا وعباراتٍ عدَّل فيها وصحَّح وبَدَّل، حتى إِذا سكبَها في نصّه الجديد خرجَت مخطوطتُه أَنيقةً بثوبها الكامل. وفي حديث لاحق مع ابنته سيلـڤـي قالت إِنه كتَب جميع مؤَلفاته في تلك الغرفة ذاتها، لا يُغادرُها إِلَّا سويعاتٍ للطعام أَو بعض استراحةٍ ثم يعود إِليها بلهفة الشوق إِلى الكتابة.

الغرفة ذاتُها! طقسٌ أَساسٌ من طقوس التأْليف.

ذات أُمسيةٍ، في صحوِ ليلةٍ مُقْمرةٍ على شرفة الفريكة، وكان أَلبرت ريحاني يروي لي ذكرياتٍ عن شقيقه الأَمين، أَشار إِلى غرفته قبالَتَنا وقال لي إِن أَمين “كان ينهض باكرًا، يخرج إِلى الشرفة (حيث نحن)، ويتناول بعدها فطوره الصباحي. عند الثامنة يعود إِلى غرفته، يُقفل بابها كي لا يزعجَه أَحد، ويَمضي إِلى آلته الكاتبة حين نَصُّه إِنكليزي، أَو إِلى ريشته حين نَصُّه عربيّ، فلا يخرج إِلَّا عند الواحدة. يتُ مامًا امه ها  الأجيال اللاحق.للاحق. إلى  ثم يغوج عغليها بلابهفة الةق الىىلنتالبةناول معنا الغداء، يستريح قليلًا، ويعود إِلى غرفته للتأْليف حتى السابعة مساءً حين يَـخرج مُتْعَبًا، كما من رحلةٍ بعيدة. بعد العشاء يغادر إِلى زيارة، أَو نزهة على درب الفريكة، أَو يستقبل في البيت زوَّارًا وأَصدقاء”.

الشاهد: الالتزامُ الصارم بدوامٍ يوميٍّ للكتابة كما دوامُ وظيفةٍ كاملٌ دَؤُوب. فللتأْليف طقوسٌ ذاتُ هيبةٍ تؤَاخي طقوسَ التنسُّك والتَعبُّد. من هنا أَهميةُ التَفرُّغ للتأْليف: كُلِّيًّا حين الوقت مُتاحٌ كاملًا، أَو جُزئيًّا حين للمؤَلِّف التزاماتٌ مهَنيةٌ أُخرى مصدرًا لرزقه. وهذه الطقوس تصبح لدى الكاتب طبيعيةً يتكرَّس لها مسارًا يوميًّا يدْأَب فيه على الكتابة في انشغال شبْهِ انخطافـيٍّ حتى ليزلُق الوقت حافيًا تحت قلمه كأَنَّ الساعات تَـمرُّ حدَّه ولا يعيها. وإِخال الأَمرَ ذاته حاصلًا للرسَّام والنحَّات والموسيقيِّ إِبَّان انخطافِ انصرافهم التأْليفي.

للمكان هَيبَتُه في التأْليف. فغالبًا ما يرتاح الكاتب في حُجرةٍ يُشكِّلها على مزاجه، يُهَنْدِسُها على إِيقاعه، يُهَنْدِمُها على ذَوقه، فتكونُ علاقةُ حبٍّ حميمةٌ بينه وبين كلِّ فاصلة من الحجرة، أَو من ركنٍ فيها أَثيرٍ، طاولةً أَو مقعدًا أَو عناصرَ معيَّنةً حميمةً من أَدوات الكتابة.

إِنها عاداتُ المؤَلفين في ساعاتِ وضْعهِمِ الأَثرَ الإِبداعي. فكأَن طقوسَهم وُجُوهُهم باديةٌ على الورق، وكأَنَّ مزاجَهم في التأْليف ضوءٌ على تراثهم، يُنير للمتلقِّين طريقًا إِليه فتَسهُل مقاربتُه، وتتَّضح مع الوقت مساحةُ الزمن بينَه وبين مَن بعدَه مِن الأَجيال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة “النهار” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى