رسالة إلى الرؤساء ميقاتي والسنيورة وسلام: هذا فَرْضُ عَيْن

رشيد درباس*

مَنْ كانَ يُفَكِّرُ   أنَّ العَيْن تُقاتِلُ في يَوْمٍ، ضِدَّ الأهدابْ
(نزار قباني – من قصيدة يا ست الدنيا يا بيروت)

أبدأ من حيث يأخذ عليَّ بعض الصديقات والأصدقاء بأن مقالي يحتاج لكي يُفْهَم، إلى قراءة ثانية، وأنه أقرب إلى اللغة الأزهرية، وأنا لا أُجاريهم في ما ذهبوا إليه، لأن لغّتي لا ترتفع إلى مصافِ الأزهريين وإن كنتُ درستُ على أيدي بعض مشايخهم الأجلّاء، وأنا أكتب افتتاحية شهرية هي أقرب إلى النصّ السياسي المُتمسح بالأدب منها إلى طلاوة المقال الصحافي؛ ولذا تَرِدُ فيها معانٍ ظاهرةٌ وأخرى مُضمرة، وبعض تورياتٍ، مع التزام كاملٍ بصحيح اللغة، وكلُّ هذا لخدمة الموضوع، لا لغرض الزخرفة أو التنميق أو تعمّد الإبهام. لكنني اليوم، وتلافيًا لِلَّوم، أشرح العنوان كي لا يَغُمَّ فهمه فأقول: إن فرض العين في الشريعة الإسلامية، هو الواجب على كلِّ مُسلمٍ بلغ سن التكليف، لا يسقط عنه إلّا بالأداء،  كفرائض الصوم والصلاة والزكاة، إن لم يؤدِّها كل شخص بعينه وقع عليه الإثم، خلافًا لفرض التكليف الواجب شرعًا من غير تعيين فاعله، فيثاب من أداه، فإذا تركه الجميع أثِموا، وإذا فعله بعضهم كفى، لأن فعل  البعض يكفي لحصول المقصود، كأن يكون في المدينة بعض حفظة القرآن، أو أن تكون فيها سبل ماء تكفي العطاش وما إلى ذلك من المصالح العامة.

بعد هذا التفسير أعود إلى الرسالة التي أوجّهها علانية إلى أصحاب الدولة، الرؤساء نجيب ميقاتي وفؤاد سنيورة وتمام سلام الذين تربطني بهم مودة وطيدة وتواصل دائم يُتيحان لي إبلاغهم إيّاها شخصيًّا ومباشرة، لكنني آثرت وسيلة البريد العام ظنًّا مني بأني أخاطبهم باسمِ رهطٍ واسعٍ من المواطنين اللبنانيين المُنتَمين إلى طوائف مختلفة. أما تخصيصي بها الرؤساء السُّنِّيين فلأني أريد أن أعبّرَ لهم عن وجل عام وارتياب مشروع وقلق مقيم لدى خواص الناس وعوامهم، مُسلمين ومسيحيين، من حالة الانكفاء السُّنِّي والذهول السائد لدى كثير من النخب. فقبل أن أشرع في كتابة المقال هاتفني واحدٌ من الكتّاب المرموقين يثني على تصريحي للأستاذ ابراهيم بيرم في جريدة “النهار”، ويعبّر لي عن خشيةٍ صادقة وعميقة من انحسار دور الطائفة السنّية في المعادلة الوطنية، مُنوّهًا بقولي إن السنَّةَ ليسوا جالية سعودية أو مصرية في لبنان، بل هم الجالية اللبنانية في دنيا العرب، مُضيفًا إن المعادلة التي قامت عليها فكرة دولة لبنان منذ قرن، مُعَرَّضة لانكسارٍ لا يُرَمَّم، إذا لم تُزَنْ الطائفة وزن الحق – على ما يقول سعيد عقل – ولم تقم بدورها التوحيدي الانفتاحي الموصل الجيد للحرارة  والمؤلِّف بين الأوصال في الداخل والخارج. وعليه فإن مكالمة الكاتب الكبير، وهو كاثوليكي، حفّزتني على مُخاطبة الرؤساء الثلاثة إذ أشعر من خلال رسالتي، أنني مُتكلّمٌ باسم كثيرين يعرفونني ومُتحدِّثٌ إلى كثيرين لا أعرفهم.

أبدأ أولًا بمنصة رؤساء الحكومة السابقين التي تكوّنت إبان تولي الرئيس سعد الحريري للحكومة، فكانت أشبه بمظلّة احتياطية هيّأها المرسل إليهم عندما قرأوا في النشرة الجوية أن سُحُبًا كثيفة تتشكّل في الأفق، وأن رذاذًا مُنذِرًا بوابل المطر بدأ بالتساقط، فكان  تلاقي الرؤساء المحترمين بمنزلة حركة دفاعٍ مُسبَقة قائمة على ثوابت الدستور والديموقراطية والسيادة وعدم ازدواجية السلطة. ولقد أملنا أن المظلّة إلى اتساعٍ من خلال التشاور مع رؤساء جمهورية سابقين ومرجعيات أخرى في محاولة نسج شبكة أمان وطنية لا ترى إلى الطوائف إلا لُحْمَتها وَسُداها، فإذا تعرضت لثقوب سارعت إلى رتقها، لأن ميزة الشبكة ليونتُها وتماسكها، لا تَهَتُّكُها وَتَيَبُّس خيوطها.

وعندما ترك الرئيس الحريري الحكم استجابةً لرغبات المتظاهرين انضمّ إلى المنصّة فشكّل دعامة وطيدة لها، بحيث اتخذ لقاء الرؤساء الأربعة شكل المرجعية الحاضرة دائمًا في أيِّ مُنعطف، التي تصدر المواقف الواضحة وتؤكد على المبادىء والثوابت.

أما وقد اختار الرئيس الحريري العزوف عن اللعبة السياسية راهنًا، في عملية مراجعة نقدية علنية شجاعة، فهذا لا ينبغي أن يشغلنا عن العاصفة التي هبّت والإعصار الذي أوشك، حيث باتت المظلة، من باب أولى، واجبة الوجود والتدعيم، إذ لا معنى أن ترى الخطر قبل حدوثه، فَتتَدَرَّع بما يَصُدُّ عنك السهام، حتى إذا حلَّ ما توقعت، رميت مِظَّلتك، وخلعت درعك، وانكفأت منتظرًا بؤس المصير. وعلى هذا أقول لأهل المنصة جمعًا وفرادى: لستم ممن يفلتون الزمام، أو ينقلبون على أعقابهم، فلقد بلوتم الصعاب وخضتم الغمار، وتطوعتم لمهمة لا رجعة عنها، فالبحر أيضًا من أمامكم والبحر من ورائكم، والعالم محتشد في أوكرانيا، ومنخرط في فيينا، ومتفرّج في الشرق الأوسط، ولئن أَولَى بعضهم لبنان عناية في مرحلة ما، فلقد كان السلوك السياسي اللبناني مُضادًا لكل عناية.

بعد هذا، أتوجّه إلى الرئيس نجيب ميقاتي من موقع من اختلف معه في مراحل  متعددة، فأقول: لقد بِنَّا كثيرًا، لكني أقدر فيك أنك توليت الحكم وأنت تعلم أن الدولة أشلاء، والدستور مَحَطُّ ازدراء، والفوضى تعم القضاء، والودائع إلى هباء، والتجاذب  الإقليمي حامي الوطيس، ولبنان في عين الزوبعة، فقبلت المغامرة، وشكلت حكومتك وأنت تسير بين اللغم واللغم، بل ضممت إلى حكومتك ألغامًا على صوَرِ وزراء، ورغم هذا، ما زلت تستعين على البلاء بالصبر، وتعرض نفسك للهجوم لدى كل تصريح أو إجراء، بل هناك إعلام جعلك عنوانًا دائمًا لبرامجه ومرمى رصاص مذيعيه ومذيعاته. يضاف إلى ذلك ما حلَّ بالسلطة القضائية من عشوائية مُخجلة واستتباع مفضوح، فَبَقيتَ رغم ذلك محافظًا على رباطة جأش من ضمن سياسة الملاينة المشروطة والمرونة ذات الحدود، لكن رسالتي لك، لا تتعلق بأدائك الحكومي، بل بما كتمت حتى الآن عنا مما انتويت تجاه المرحلة المقبلة والاستحقاق الانتخابي، بعد تعليق الرئيس سعد لنشاطه والفجوة الكبيرة التي خلفها وراءه. يا دولة الرئيس، الوقت يدهم، والفراغ يُغري بالتسلل وتزوير التمثيل، ولو لم يكن دخولك للمغامرة الحكومية استمرار مسيرة، لما كنا بحاجة لتوليك، ذلك أننا ما نظرنا إلى تحملك المسؤولية إلا معبر نار نحو الاشتراك بإطفاء الحريق، فمن حبس ماءه في خرطومه، ومن طوى سلالم الإنقاذ، يكون شريكًا في الحريق بالامتناع، أو فاعلًا بالقصد الاحتمالي الرائج في هذه الأيام، فيما وهبك الله مرونة وباعًا ونبعًا، ما يجعلك ملزمًا بتقدم الصفوف التي تنتظر منك موقفًا توضح فيه قراءتك للمرحلة ورؤية ما يجب فعله، علمًا أن مسؤوليتك الانتخابية لن تقف عند حدود مدينتك وأنت أول العارفين. إنَّ مهامك هذه يا دولة الرئيس هي فرض عين، لا يُرفَع الإثم فيه إلا بالأداء الشخصي.

وللرئيس السنيورة أقول: لقد كان مؤتمرك الصحافي جامعًا مانعًا، لكنك تركت فيه بعض الأمور الملتبسة الدالة على إيجابية، ولكن الخطاب لا بد  أن يُسْتَتْبَعَ بمروحة واسعة من النشاط تتولاه عَيْنًا، وتستكمله مع زميليك في المنصة، أنت الذي كنت العين التي قاومت المخرز.

أما الصديق العزيز تمام صائب سلام، فلقد دلَّتْنا وتيرة حركته بُعَيْدَ خروجه من الحكم أنه شرع في سياسة الابتعاد عن الممارسة المباشرة، فرفض تولي تشكيل الوزارة مرات عدة، كما حَضَّرنا لقبول عزوفه عن الترشح، لكنه في الوقت عينه، بقي على منصته، حاملًا مظلته، متمسكًا بموافقه، منسقًا مع من يلتقي بهم وطنيًّا وسياسيًّا، بل بقي رئيس حكومة ظل، يجمع فيها بعض وزرائه السابقين في إطار التداول ودوام المودة. وعلى هذا، أرى عليه فرض عين، بأن يستثمر مصداقيته وأداءه الحكومي المحترم، ودخوله إلى الوجدان العام، لاستنقاذ الدولة مما يحيق بها في إطار عمل وطني عام جامع يتجاوز المذهب والطائفة إلى رحاب لبنان الكبير.

السادة الرؤساء المحترمون

أنهيت رسالتي وفي نفسي مرارة من يرى سِكَّةَ السلامة.. ولا يسلكها، ويرى غليان الأجيال ولا ينضمّ إليها، وفي نفسي أيضاً أمل وطيد أنكم بأداء فروض العين،  تشركوننا جميعاً بفروض الكفاية،  مُتَمنِّيًا أن تصلكم  و” فؤاد النجيب تمام”.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى