الإحباط المسيحي من الطائف إلى انفجار المرفأ

بقلم السفير يوسف صدقة*

أدّى انفجار المرفأ في بيروت في 4 آب (أغسطس) الماضي، إلى استشهاد أكثر من مئتي شخص وإصابة 6,000 جريح وإلى تدمير آلاف الشقق والمنازل كلياً أو جزئياً لا سيما في منطقة مار مخايل – الأشرفية – الجميزة – الكرنتينا. واعتُبر بمثابة زلزال لم يحدث حتى في أثناء الحرب اللبنانية. وقد تسبّب بأضرارٍ جسيمة طالت المدارس والمستشفيات وغيرها من المؤسسات. كانت لهذا الإنفجار تداعيات كبيرة في الشارع المسيحي على الصعد السياسية والإقتصادية والإجتماعية. لم يساعد الرئيس القوي، العماد ميشال عون، في بلسمة الجراح لأنّ العهد واجه أوضاعاً محلية وإقليمية صعبة ومُعقّدة، نظراً إلى الخيارات السياسية المُتّبعة وظروف محلية قاهرة كانهيار القطاع المصرفي في البلاد والوضع المالي للدولة وجائحة كورونا.

وقد اعتبرت شريحةٌ كبيرة من المسيحيين، أنّ الانفجار نتج عن مؤامرة، سواء في تخزين نيترات الأمونيوم من دون معالجتها وسحبها في الوقت المناسب، أو في التفجير الذي حصل، سواء كان عرضياً، أو نتيجةً لقصف بواسطة طائرة مُسيّرة أو من طريق طوربيد من سفينة عسكرية. و مما زاد في الإحباط عدم تحرك الهيئة العليا للإغاثة بشكل فعّال، أسوة بتدخّلها في كوارث أخرى.

شكّل انفجار 4 آب (أغسطس) نقطة تحوّل كبيرة في مسار الأحداث، لقد أصاب منطقة مسيحية بزلزال ودقّ ناقوس الخطر، وهذا ما حدا بالبطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي، لرفع السقف في العظات والمواقف، حيث طالب بحياد لبنان وفكّ الحصار عن الشرعية، والقرار الوطني الحر، وتجنيب البلاد السير نحو الإنهيار. كما وجّه انتقاداته إلى الطبقة السياسية التي عاثت في البلاد الخراب والفساد. وقد اقتدى البطريرك بأسلافه في المواجهة ورفع الصوت، عندما تُحدق الأخطار في الوطن، وذلك برفع العناوين الوطنية الكبرى، بدون التدخّل في مجريات الحياة السياسية المحلية، فاقترح مشروع حياد لبنان، القائم على عدم دخول لبنان في أحلاف ومحاور، وصراعات سياسية وحروب إقليمية ودولية، وإقناع أي دولة إقليمية أو دولية بعدم التدخل في شؤونه، أو الهيمنة عليه.

وقد اعتبر أنّ نظام الحياد هو مصدر استقلال لبنان واستقراره، مُرتكزاً على ثوابت لبنان التاريخية منذ إنشاء لبنان الكبير في انتهاج سياسة الحياد إزاء الصراعات الإقليمية والدولية (استثناء اواخر العام 1958).

  • مئوية لبنان الكبير: إمتاز الكيان اللبناني منذ تأسيسه في العام 1920 بتنوعه الطائفي والمذهبي، وتعدّده الثقافي. وقد آمن البطريرك الياس الحويّك، أحد المؤسسين للبنان الكبير، بالتعايش المسيحي-الإسلامي، فكان مُفاوضاً صلباً في مؤتمر الصلح في باريس، ولم يرضَ بخريطة لبنان الصغير، حيث يُشكل المسيحيون الأكثرية، بل طالب بلبنان الكبير مع الأقضية الأربعة المسلوخة عنه. وعندما عرض رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو حدود لبنان حتى الليطاني، رفض البطريرك هذا العرض مُتذرّعاً، بوجود أملاك وقرى للطائفة المارونية بعد مجرى الليطاني. وأكّد على ضرورة تطبيق خارطة الأركان الفرنسية لعام 1864 والتي وضعها قادة الحملة الفرنسية التي أرسلها الإمبراطور نابوليون الثالث إلى جبل لبنان بعد مآسي العام 1860.

هذا وقد أصدرت عصبة الأمم في العام 1922 قراراً بوضع لبنان تحت الإنتداب الفرنسي والذي ساعد على بناء المؤسسات الدستورية في البلاد.

  • إستقلال لبنان: جاء استقلال لبنان في العام 1943 تتويجاً لنضوج فكرة لبنان العيش المشترك، بجناحية المسلم والمسيحي. واعتُبِرَ المسيحيون أنهم الروّاد في تأسيس فكرة الكيان اللبناني، وعاشوا عصره الذهبي مع مكوّنات الوطن منذ الإستقلال في العام 1943 حتى العام 1975. وقد أدّت “حرب التحرير” و”حرب الإخوة” في العام 1989، وعدم التطبيق العملي لاتفاق الطائف، إلى زيادة الإحباط في الجانب المسيحي. وقد زاد من الإحباط تراجع عدد المسيحيين إلى 35% ولا سيما بعد موجات الهجرة الحديثة نتيجةً للأزمات السياسية والوضع الاقتصادي ولمرسوم التجنيس الصادر في العام 1994.

وتراجعت نتيجة ذلك ملكية المسيحيين للعقارات. كما أن الدستور اللبناني الذي يكفل حق المسيحيين في المناصفة في الحكم، ووظائف الفئة الأولى، يكفل الحق المسيحي بوجه الأكثرية العددية. وقد أكّد الرئيس الراحل صائب سلام في العام 1982 “بأنّ لبنان لا يُساس بالأرقام”.

  • المسيحيون أمام التحديات: تمسّك المسيحيون في لبنان بهويتهم الثقافية، وأصرّوا على موقفٍ أساس وهو الدعم للهوية الوطنية ولفكرة القومية اللبنانية التي أوجدوها. فقد أظهر المسيحيون أنهم أكثر قدرةً على الإندماج والعيش المشترك مع غيرهم من المكوّنات الدينية والثقافية على الرغم من التحديات المتعاقبة والتذويب والتهميش.

لقد تعلّق المسيحيون بأرض لبنان التي تضمّ كل مُكوّنات الوطن، وهم، للتأكيد، ليسوا دخلاء أو طارئين، فهم الذين دفعوا الدم على مرّ الزمن من أجل العيش بحرية وكرامة. فالمسيحيون كانوا في القرن التاسع عشر روّاد الفكر السياسي والقومي. وهم من نسيج شعب لبنان الذي تحمّل الغزوات والمحن عبر تاريخه. فالشعب اللبناني المطبوع على مقاومة دهرية، صمد عبر الأجيال في زمنٍ استكانت فيه شعوب، وانهزمت فانقرضت وزالت معها حضارتها.

فالمسيحيون مثّلوا عبر التاريخ صلة الوصل بين مختلف الطوائف الإسلامية. فلم يكن هاجسهم السيطرة والحكم بل كان هاجسهم العيش بحرية وكرامة.

  • مُقاربة المستقبل: تمثّلت هواجس المسيحيين في السنوات الأخيرة بضياع المميزات الأساسية التي طبعت لبنان، فقد ضاعت الميزات التي جعلته في طليعة الدول العربية لمواكبة معالم التطور والتقدم. كان لبنان رائداً في ممارسة الديموقراطية وفي احترام الحريات. وكان أيضاً مستشفى العرب، ومركز الإشعاع الثقافي، وكانت جامعاته قبلة العرب والأجانب.

وقد ضاعت في الآونة الأخيرة بوصلة الإرتباط مع الدول العربية، والتي هي المصدر الأساس لإنعاش الإقتصاد اللبناني. وأتت مسألة إفشال مبادرة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والتي مثّلت الأمل الوحيد لإنقاذ الإقتصاد اللبناني بمثابة عاملٍ إضافي للإحباط المسيحي، ما زاد في هجرة الشباب إلى الخارج ولا سيما المسيحيين منهم.

أما على الصعيد الداخلي فالخلافات العميقة بين الأطراف السياسية المارونية لم تُساعد على مشروع سيادي مسيحي يدعم مشروع الحياد الذي أطلقه البطريرك الراعي، وهذا الحياد عرفه لبنان فتراتٍ عديدة منذ استقلال لبنان. أما على صعيد المجتمع المسيحي فقد زاده الجنوح نحو المجتمع الاستهلاكي ترفاً وسعياً إلى الكسب المادي، بعيداً من القيم الخلقية وحياة التقشف التي تميّز بها عبر التاريخ.

ويحضرني في هذا المقام موقف رائد للكاردينال الفرنسي الراحل “جان-ماري لوستيجيه” (Jean-Marie Lustiger) بعد زيارته الوادي المقدس في قاديشا بما تمثّل من قيم، أمام وفدٍ ماروني زاره في باريس قوله: “إن لم تنقلوا خبرة الوادي المقدس إلى بيروت، لن يكون للبنان مستقبل لأنّ قاديشا قمة في وادٍ كلما انحدرنا فيها ترتفع”.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني متقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى