ساعةُ القَرار

بقلم غسان سعادة*

لو طٌرِحَ السؤال، ماذا أنجزَ اللبنانيون كشعبٍ بعد مرور مئة عام على حصولهم على وطن ونظامٍ ديموقراطي برلماني ودستور وقوانين، لكانت الإجابة سلبية على أكثر من صعيد. إذ أن ما حصلوا عليه من نظام ودستور وقوانين قد تم تجاوزه او تقزيمه تدريجاً بدءاً من الجدود وإنتهاءً بالابناء والأحفاد. فالفساد في الحكم والسياسة في لبنان سائدان منذ عقود كثيرة، والأنظمة والقوانين غير مُجارية للعصرنة، ومردّ ذلك أسبابٌ عدة الأبرز منها يمكن ردّه الى تدنّي الشعور بالحس الوطني والمصلحة العامة، وتفضيل المصلحة الشخصية والطائفية والقبلية عليهما، ومنها النظرة إلى القانون كأداة إعاقة بدلا من النظر اليه كاداة نظام والسبب في ذلك يعود الى فقدان الثقافة القانونية لدى المجتمع، ولسوء إدارة القانون من قبل مؤسسات الدولة وقضائها، ما قاد الى المفاهيم الخاطئة لما هو وطني أو مصلحة عامة أو نظامٌ عام، وأنتج قيادات سياسية ذات رؤيا ومفاهيم متجانسة مع المفاهيم الشعبية المذكورة، فأصبحت النظرة الى الدولة كمَغنم بدلاً من النظر إليها كمؤسسة وطنية تعمل لخدمة الشعب والوطن، وصارت السياسة سياسة تنازع على تقاسم المغانم بدلاً من أن تكون لخدمة المصلحة الوطنية والمصالح العامة للشعب.

في الأمس القريب حدث الإنفجار الأبرز في تاريخ لبنان ألا وهو الإنفجار الذي وقع في ٤ آب (أغسطس) ٢٠٢٠ في مرفأ بيروت وما تسبب به من دمار وضحايا. وعلى فداحة الحدث لم يعتذر او يستقيل مسؤول لبناني واحد، واستمر أمر الحكم والسلطة وكأن شيئاً لم يحدث، مع أن الأدلّة المتوافرة من التحقيقات المحلية والدولية تشير إلى أن السبب في ما حصل يُعزى الى إهمال المسؤولين اللبنانيين. وفي هذا الحدث الأخير وتداعياته أبلغ وأصدق دليل على ضعف الحسّ بالمسؤولية لدى المسؤولين والمفاهيم الخاطئة لسياسة الدولة والسلطة والحكم في لبنان.

رُغمَ أن هذا هو حال الدولة اللبنانية والحُكم السائد منذ عقود، يبقى إن البعض القليل من اللبنانيين فقط يُدرك أنه، وعبر المئة سنة من الإستقلال، تصرفوا جميعاً مسلمين ومسحيين في خفّة في أغلى وأثمن ما يُمكن لشعبٍ أن يكون لديه ألا وهو الوطن والهوية والإنتماء والدستور والقوانين والمؤسسات العامة، بحيث ان البعض منهم لم يعترف أساساً بلبنان كوطن، فيما اعتبر بعضهم أن الوطن هو وطنٌ له قبل الآخرين. كما ان البعض أراد لنفسه هوية انتماء أرحب وأوسع من الوطن الصغير، بينما البعض أرادها هوية انتماء لقلّة مختارة. وبصورة عامة، وبسبب ان اللبنانيين نظروا الى الدولة كمصدر غنم لا كمسؤولية لخدمة المصلحة العامة، إختلفوا في ما بينهم وتقاتلوا مراراً على ما يُمكن يأخذوه من الدولة كغنائم، إن للزعماء أو للطوائف أو القبائل، حتى هزلت الدولة ووصلت الى الإفلاس. وكان الشعب خلال كل ذلك وما يزال، يتقاتل ويتذابح للحصول على السراب الذي صوّرته له قياداته السياسية كمغنم من دون أن يَعي إن موت الدولة سيعني أيضاً موت سراب الغنيمة المُبتغاة.

لهدف الحصول على المغانم تجاوز الزعماء والشعب القوانين، وتمّ تسييس القضاء والإدارات العامة، ما أفسح المجال للقيادات السياسية للإمساك بالسلطة والقانون والتشريع، فتجمّعت جميعها في قبضةٍ واحدة هي قبضة السلطة السياسية خلافاً للدستور. وفي سبيل ذلك استمر الإقتتال الفعلي والسياسي حتى ٣٠ أيلول (سبتمبر) من العام ١٩٨٩ حين وضع الزعماء المتحاربون  إتفاقاً في ما بينهم لوقف إطلاق النار عُرِفَ بإتفاق الطائف الذي كان من ابرز نتائجه العودة الى صيغة لا غالب ولا مغلوب بين اللبنانيين، ولكن بإضافة حيثيات جديدة قضت بأن يُشكّل السياسيون بمجموعهم طرفاً واحداً مُنتصراً مُحاصِصاً (خمسين في المئة للمسلمين مقابل خمسين في المئة للمسيحيين)، واعتُبر بالمقابل الشعب اللبناني بمجموعه مع دولته ومؤسساته الطرف الآخر الخاسر.  نتيجة لهذه المعادلة أصبح الطرف الخاسر، أي الشعب ودولته، ملزماً بتسديد أثمان المحاصصة للطرف المنتصر، أي للزعماء بالكامل وبدون تفريق بين مكلف مسلم او مكلف مسيحي. هذه كانت من الناحية العملية إحدى نتائج إتفاق الطائف الواقعية، سواء تعمّدها أو لم يتعمّدها المتفقون ومن رعاهم، وبذلك تم تكريس إستنزاف الدولة اللبنانية والشعب البناني لمصلحة الزعامات السياسية، لتحكم كما تشاء بدون رقابة عليها او محاسبة من أحد.

نظرياً يُمكن القول أن كارثة إنفجار مرفأ بيروت، بالإضافة إلى ما وصلت اليه أوضاع اللبنايين المٌتردية، كانت المُحفّز للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لكي يأتي الى لبنان مرتين ليُقدم للشعب اللبناني، خارطة طريق للخروج من الحفرة التي أوقع اللبنانيون انفسهم بها نتيجة ما مارسوه من مفاهيم خاطئة للدولة والقانون والمجتمع والمصلحة العامة، مما يوجب تسليط الضوء على بعض ما قاله:

قال ماكرون بشأن إتخاذ القرارات:“ انا كرئيس لفرنسا لا يُمكنني أن اقول للبنانيين ماذا عليهم ان يفعلوا، أنا مُستعد للمساعدة، لكن لا يُمكنني أن أحل مكان رئيسٍ إنتخبه الشعب اللبناني“. واشار بشأن المساعدات الى أنه ” لن يتم منح لبنان شيكاً على بياض“. كما  وعد اللبنانيين كي يطمئنوا بأن المساعدات لن تستولي عليها القيادات اللبنانية، فقال بهذا الشان: ”لن تطال ايدي الفساد مساعداتكم“، اما بشأن الإصلاح فقد قال: ”إنه لا يُمكن إجراء إصلاحات في لبنان مع وجود فساد”، مؤكداً أنه “سيخوض حواراً صريحاً مع المعنيين لتحديد المسؤوليات“.

مهما قيل بما صرّح به ماكرون، وكيفما تم تقييم زيارتيه، وما قاله وما وعد به خلالهما، ينبغي الإشارة إلى أنه من منطلق القانون الدولي وإستقلالية الدول،  فالرئيس الفرنسي غير مُلزَم حتى أدبياً بالتدخل في الموضوع اللبناني، وعليه ينبغي على اللبنانيين ان يُثمّنوا لفرنسا ورئيسها هذه الإلتفاتة، كما لإبدائه نية الإستعداد للمساعدة.

من جهة اخرى كلام الرئيس الفرنسي كان واضحاً أن يد العون الممدودة من فرنسا الى لبنان  مشروطة، بحيث أن المساعدات لن تُقدَّم من طريق “شيك” على بياض للدولة اللبنانية المشكوك في قدراتها ونواياها لبنانياً ودولياً، وفي ذلك ضمان للشعب اللبناني كما أنه ضمان لعدم هدر أموال المساعدات، إن ومتى قُدّمت. وحول هذه الحيثية أكّد الرئيس الفرنسي للبنانيين أن أيدي الفساد لن تطال المساعدات، وذلك تأكيداً منه على عدم قناعة المجتمع الدولي بنوايا وقدرات الإدارة اللبنانية. مُضيفاً أنه لا يمكن إجراء إصلاحات في لبنان مع وجود الفساد وانه سيكون صريحاً مع المعنيين لتحديد المسؤوليات.

في هذا الوقت الذي تجاوزت اوضاع لبنان مستوى نعتها بأزمة، إذ أصبحت إمكانية زوال الدولة اللبنانية، بسبب سياسات ومناهج حكامها وشعبها، أمراً مطروحاً على بساط البحث. وفي الوقت الذي تشير الإحصاءات الي ان نسبة اللبنانيين الذين يعيشون خارج الاراضي اللبنانية بلغت ٦٥ في المئة، في ضوء ذلك على المترددين والمشككين والمتمسكين بحقوقهم وحقوق طوائفهم وقبائلهم وكل مساند لأحد من هؤلاء، كما والمطالبين بالاكثر من الرئيس الفرنسي، أن يُفصحوا عن الخيارات الأخرى المُتاحة للمُفاضلة بينها، واختيار الأنسب والأفضل، ولكن عليهم الأخذ بعين الإعتبار ان ال٦٥ في المئة من الشعب اللبناني الموجود في الخارج لن يعود إذا استمر الوضع السياسي على ما هو عليه، بينما إن تبدّل الوضع فالغالبية العظمى من اللبنانيين ستعود الى وطنها لتعمل وتبني من جديد كما عليهم أن يأخذوا في الحسبان أيضاً أنه لو تمت دعوة اللبنانيين المقيمين الى صندوق الإقتراع، فالقناعة السائدة لدى معظم اللبنانيين أن الشعب سيُعيد معظم مَن هم مُتَّهمين الآن بالفساد الى البرلمان والحكم.

فعليه، وبغض النظر عما قاله أو وعد به الرئيس الفرنسي، يبقى القرار في يد اللبنانيين، وعليهم أن يحسموا أمرهم إما الإصلاح والمحاسبة واسترداد الأموال المنهوبة وبناء دولة القنانون حيث جميع اللبنانيين متساوون في الحقوق والواجبات، أو الإبقاء على الوضع الراهن والذهاب الى المزيد من التقاتل والتحاصص حتى موت الغنيمة والإنهيار الكامل. الخيار الآن للبنانيين وحدهم إلى أيٍّ من المسارين سيتّجهون.

  • غسان سعادة هو محام لبناني مُقيم في بريطانيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى