دولُ الخليج، والحربُ التكنولوجية بين أميركا والصين، وعاصفةُ الجيل الخامس المُقبلة

فيما تحتدم الحرب التكنولوجية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، بدأ القلق يُخيّم على دوائر الحكم في دول مجلس التعاون الخليجي، إذ أنها ترتبط بالأولى سياسياً وأمنياً واقتصادياً وبالثانية هيدروكربونياً. لذا، يتابع المراقبون عن كثب كيف ستواجه العواصم الخليجية هذه المعضلة، خصوصاً مع هواوي والجيل والخامس بعدما وقّع بعضها إنفاقات مع الشركة الصينية وبعد إعلان الحظر من قبل أميركا وبريطانيا للتعامل معها.

 

هواوي: هل تنجح في البقاء في الخليج العربي؟

بقلم محمد سليمان*

التنافس بين الولايات المتحدة والصين هو في منطقة مجهولة. لا يوجد مثالٌ أوضح على ذلك من صراعِ واشنطن المُكثّف والعالمي والمُحتدم بشكل متزايد مع الشركة الصينية “هواوي” (Huawei) حول أمن الجيل الخامس (5G). يزيد الوزن الجيوسياسي للبلدين والحرب الباردة الحالية بينهما من إلحاح الخيار الذي يواجهه العالم بشأن تضمين هواوي في شبكات الجيل الخامس أم لا. تتهم الولايات المتحدة شركة هواوي بتركيب أبوابٍ خلفية في أجهزتها تُمكّن الحكومة الصينية من التجسّس والمُراقبة. كانت دول مجلس التعاون الخليجي تأمل في الإبتعاد والحفاظ على مسافة من هذه الحرب الباردة الرقمية المزعومة. ومع ذلك، فقد أصبح هذا الأمر صعباً بشكل متزايد مع تكثيف أميركا لحملتها المُضادة لهواوي من خلال تقديم “مبادرة الشبكة النظيفة” (Clean Network Initiative) ودعمها لقرار إسرائيل باستبعاد هواوي من شبكة الجيل الخامس الخاصة بها. ويُنذرُ هذا التصعيد الأخير ضد هواوي في إسرائيل بزيادة الضغط الذي من المتوقع أن تواجهه دول مجلس التعاون الخليجي قريباً أيضاً. إن دول الخليج تواجه في الواقع خياراً صعباً في ما يتعلق بشركة هواوي. يتمثّل أحد الخيارات في إعطاء الأولوية لشراكتها الأمنية والسياسية والإقتصادية مع الولايات المتحدة – الضامن الرئيس لأمن الخليج – وبالتالي حماية العلاقة الحاسمة في هذا الوقت من التوترات غير المسبوقة مع إيران. ويتمثّل خيارها الآخر في إعطاء الأولوية لاعتمادها الإقتصادي على تصدير النفط الخام إلى الصين، والذي سيكون حاسماً لانتعاش منطقة الخليج بعد الوباء. هناك دعمٌ مُتزايد من الحزبين الجمهوري والديموقراطي في الولايات المتحدة لانتهاج سياساتٍ مُتشدّدة تجاه الصين. هذا يعني أنه بغض النظر عمَّن سيفوز بالبيت الأبيض، فإن الدول الخليجية ستتعرّض للضغط عاجلاً أم آجلاً من قبل واشنطن لاختيار جانبٍ في الحرب الباردة الرقمية.

المشهدُ العالمي

إكتسبت المعركة العالمية ضد هواوي زخماً مع قرار المملكة المتحدة في تموز (يوليو) بتغيير المسار وحظر المعدات من الشركة الصينية. بموجب قانون المملكة المتحدة، يُحَظَّر على الشركات الحصول على معدات هواوي الجديدة ويجب عليها إزالة المعدات الموجودة بحلول العام 2027. كان القرار البريطاني جزئياً بسبب الضغط والعقوبات الأميركية على شركة هواوي، ولكنه كان أيضاً استجابة لسياسات الصين المُتشدّدة على جبهات مُتعددة، وأبرزها قانون الأمن الجديد في هونغ كونغ. ومع ذلك، فإن حملة الولايات المتحدة ضد هواوي في أوروبا تتجاوز لندن. تطلب واشنطن من الدول الحليفة حظر هواوي من شبكات الجيل الخامس الخاصة بها من خلال الإنضمام إلى “مبادرة الشبكة النظيفة”، التي تضم إلى الآن: جمهورية التشيك وبولندا والسويد وأستونيا ورومانيا والدنمارك واليونان ولاتفيا.

دول مجلس التعاون الخليجي ولحظتها الرقمية

أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي – وبخاصة البحرين والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر – مُرَقمَنة بشكل متزايد منذ العام 2010، لا سيما في ما يتعلق بالخدمات الحكومية، وتغلغل الإنترنت وتدفقات البيانات، واستخدام الهواتف الذكية. باستخدام الثروة المتراكمة من صادرات النفط، وجّهت اقتصادات الخليج استثمارات ضخمة نحو بناء بنيتها التحتية الرقمية وتعزيز مرونتها الرقمية. حدث ذلك في الوقت عينه الذي كانت فيه المنطقة تُوسّع حضورها العالمي وتستعد لفُرصٍ رفيعة المستوى لإبراز نفوذها، بما فيها رئاسة المملكة العربية السعودية لمجموعة العشرين في 2020، ومعرض دبي إكسبو 2020، وكأس العالم لكرة القدم في قطر في 2022.
السباق نحو الجيل الخامس

إن حجر الزاوية في مبادرة رؤية المملكة العربية السعودية 2030 هو هدفها المُتمثّل في تحويل المملكة إلى مركز ومحور رقمي في المنطقة. بالنظر إلى هذه الاستراتيجية ومكانة السعودية كاقتصادٍ في مجموعة العشرين والدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في دول مجلس التعاون الخليجي، شعرت الرياض بالضغط لدخول عصر الجيل الخامس بشكل أسرع وعلى نطاق أوسع من نظرائها في الخليج. في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، دخلت شركة “زين” الرائدة في المملكة العربية السعودية في شراكة مع شركة هواوي لتقديم المرحلة الأولى من شبكة الجيل الخامس، والتي تُغطّي 20 مدينة في المملكة مع 2000 برج وتُزوّد السعودية بأكبر شبكة للجيل الخامس في المنطقة. وقد جاءت شراكة “زين” مع هواوي نتيجةً للأسعار التنافسية للشركة الصينية ووجودها الكبير في السوق السعودية.

منذ العام 2015، كانت دولة الإمارات العربية المتحدة تأمل في نشر شبكة الجيل الخامس لترسيخ مكانة دبي كمدينة عالمية والتحضير لمعرض دبي إكسبو 2020، وهو حدثٌ دولي توقّعت منه الإمارات في الأصل أن يجتذب أكثر من 25 مليون زائر. لتحقيق هذه الأهداف، إحتاجت دولة الإمارات إلى شريك يُمكنه توفير البنية التحتية اللازمة للجيل الخامس على نطاق واسع. لذا أقامت شركتا “دو” (du) و”اتصالات”، المُشغّلتان الرئيسيتان للشبكات في الإمارات شراكات مع هواوي لنشر الجيل الخامس. في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أكملت “إتصالات” بنجاح أول مكالمة مستقلة من الجيل الخامس في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

على غرار الإمارات العربية المتحدة، تتوقع قطر أيضاً لحظتها الآتية في دائرة الضوء العالمية: إستضافة كأس العالم لكرة القدم في العام 2022 – البطولة الأولى لهذه الكأس في في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لم تستضف الدولة الخليجية الصغيرة أبداً حدثاً قريباً من حجم كأس العالم، والذي سيجلب حوالي 1.7 مليون زائر إلى بلد يبلغ عدد سكانه 2.7 مليوني نسمة فقط. ولجعل هذه المناسبة أكثر تاريخية، تريد قطر أن تكون أول بطولة كأس العالم للجيل الخامس أيضاً. لإطلاق شبكة الجيل الخامس على نطاق واسع، دخلت شركتا الهاتف الرئيسيتان في قطر، “فودافون” و”أوريدو”، في شراكة مع الشركات المُزوّدة لمعدات الجيل الخامس الثلاث وهي: هواوي، “أريكسون”، و”نوكيا” – “فودافون” مع هواوي، و”أوريدو” مع “أريكسون” و”نوكيا”. منذ العام 2019، قامت فودافون و”أوريدو” بنشر شبكات الجيل الخامس في الدوحة وفي عشرات المواقع في جميع أنحاء البلاد. تمتلك “أوريدو” وحدها أكثر من 1200 موقع من الجيل الخامس في جميع أنحاء الدوحة. إن قرار المملكة المتحدة الأخير بحظر معدات هواوي سوف يُلقي بظلاله على العلاقات الإيجابية التي تربطها شركة فودافون البريطانية بهواوي في السوق القطرية. من الآن فصاعداً، هناك نقصٌ في الوضوح حول التأثير المستقبلي لحظر المملكة المتحدة على شراكات فودافون خارج الإتحاد الأوروبي مع هواوي.

معضلة الخليج: إعتماد متزايد على الولايات المتحدة والصين

إن حكومات دول مجلس التعاون الخليجي قلقة جداً وغير مرتاحة لتصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين. من ناحية، الصين هي الزبون الرئيس للنفط الخليجي. قبل التباطؤ الاقتصادي بسبب كوفيد-19، كانت المملكة العربية السعودية تُصدّر 1.67 مليون برميل يومياً إلى الصين، وقدمت دول الخليج 28٪ من واردات الصين الهيدروكربونية. بالإضافة إلى ذلك، بسبب تداعيات الوباء، أصبحت اقتصادات الخليج أكثر ارتباطاً بالإقتصاد الصيني، الذي يتعافى بشكل أسرع من اقتصادي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. من ناحية أخرى، تواجه منطقة الخليج تحديات أمنية غير مسبوقة من إيران ووكلائها، ما يجعلها أكثر اعتماداً على شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. إعتباراً من كانون الثاني (يناير) 2020، كان لأميركا حوالي 40 ألف جندي في الخليج وزادت قواتها عندما تعرضت دول مجلس التعاون الخليجي للهجوم. على سبيل المثال، عندما قصفت إيران منشآت أرامكو النفطية في بقيق العام الماضي، نشرت الولايات المتحدة المزيد من القوات العسكرية في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لاستعادة قوة الردع المفقودة مع طهران. إن تنامي العلاقات الاستراتيجية بين دول مجلس التعاون الخليجي والصين والعلاقة القوية التي تربط أصلاً دول الخليج والولايات المتحدة، تجبر البلدان الخليجية على الحذر والبقاء بعيداً من الحرب التكنولوجية الحالية بين الولايات المتحدة والصين.

ماذا بعد؟

منذ العام 2018، ركزت الحملة الأميركية ضد هواوي في المقام الأول على الاتحاد الأوروبي، لكن واشنطن تُرسل الآن رسائل تهديد وعاجلة بشكل متزايد إلى حلفائها في كل مكان. بسبب المصالح الأمنية المشتركة بين إسرائيل والعديد من دول الخليج العربي واعتمادها الاستراتيجي على الولايات المتحدة، قد يجبر الحظر الإسرائيلي على هواوي عواصم الخليج على إعادة النظر في مشاركة الشركة الصينية في شبكات الجيل الخامس الخاصة بها. حتى الآن لم يطرح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مسألة هواوي علناً مع شركاء واشنطن الخليجيين. ومع ذلك، في تموز (يوليو) الماضي، نقلت ألينا رومانوفسكي، السفيرة الأميركية في الكويت، مخاوفها بشأن اندماج هواوي في شبكات الخليج للجيل الخامس إلى تويتر. واتّهمت هواوي بأنها مُلزَمة قانوناً بالعمل مع المخابرات الصينية، وتعريض البيانات والخصوصية للخطر. في اليوم التالي، رفضت السفارة الصينية مزاعم السفيرة واتهمت الولايات المتحدة بالخوف من تفوّق هواوي في تكنولوجيا الجيل الخامس وبارتكاب سرقة البيانات عبر “برامج التجسس الإلكترونية مع “بريسم” (PRISMs)” – في إشارة إلى برنامج مراقبة وكالة الأمن القومي الذي تم الكشف عنه في العام 2013.

في وقت قريب جداً، ستواجه عواصم الخليج تحدّي محاولة التغلب على عاصفة هواوي والجيل الخامس من دون استعداء الولايات المتحدة أو الصين. سيتعيّن على دول مجلس التعاون الخليجي تحقيق التوازن بين مصالحها الإقتصادية والأمنية خلال هذا الركود العالمي الحاد، وقد تحتاج إلى التكيّف مع الضغوط المتزايدة من واشنطن إذا فاز جو بايدن في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) وقرر أن قادة الخليج يجب أن يخضعوا لمعايير مختلفة عن تلك التي كانت في عهد إدارة ترامب. إذا اختارت دول مجلس التعاون الخليجي الحفاظ على علاقتها مع هواوي، فستكون هذه علامة واضحة على تقلص قوة أميركا ونفوذها على حلفائها. ولكن، إذا اتخذت دول الخليج هذا الخيار، فعليها أيضاً أن تكون مستعدة لمواجهة الإنتقام بسبب قيامها بذلك.

  • محمد سليمان باحث غير مقيم في البرنامج السيبراني التابع لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن. يُركّز عمله على تقاطع التكنولوجيا والجغرافيا السياسية والأعمال في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وجهات النظر المعروضة في هذه المقالة هي خاصة به.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى