لبنان بين التَفَكُّك والمَجاعة

بقلم هيكل الراعي*

في السابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) 2019 دخل لبنان في المجهول. أزماتٌ مالية واقتصادية وسياسية ومعيشية، معطوفة على جائحة كورونا، زحفت مُجتَمِعةً على وطن الأرز، فحوّلت فرحَه إلى حزن، وزرعت الخوف والرعب، من تطورات سلبية مُحتَملة، في المدن والبلدات والقرى. إستقالت حكومة الرئيس سعد الحريري وتشكّلت حكومة جديدة برئاسة الدكتور حسّان دياب، وأعلن لبنان توقّفه عن سداد ديونه، ثم جاءت خطوات الإدارة الأميركية ببدء حصارٍ غير مسبوق على الشعب اللبناني، وبتطبيق قانون قيصر (الأميركي) لتركيع سوريا، لتزيد المُعاناة وترفع منسوب القلق. ثم جاء انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي وتراجع القدرة الشرائية لأغلب العائلات اللبنانية ليُبشّرا بفقدان سلعٍ أساسية، وبتغييرٍ عميقٍ في نمط عيش إعتاده اللبنانيون، وربما بمجاعة بدأت تطل برأسها. فهل سيصمد لبنان أمام هذه العواصف والأزمات أم سيتمكن من تجاوزها؟

1- لا يُمكن الفصل بين الأزمات التي يمرّ بها لبنان وتلك التي تعيشها دول منطقة الشرق الأوسط بدءاً بسوريا الشقيقة والجارة، مروراً بالعراق، وصولاً إلى ليبيا واليمن. وإذا كان لبنان تجنّب حتى تاريخه، بفضل حكمة بعض قادته، الدخول في المواجهات الأمنية والعسكرية، وهي مُحتَملة، فإن تعمّق الأزمات المالية والإقتصادية والمعيشية فيه بدأت تُشكّل الأرضية الخصبة لاشتعال النار. وإذا كان لكل ساحة صراع خصائصها ولاعبوها، فإن المشترك بين غالبية هذه الساحات يتميز بصراع أميركي-إيراني حاد بدأ مع الثورة الإسلامية في العام 1979، وزاد اشتعاله بعد الإنسحاب الأميركي من الإتفاق النووي وفرض عقوبات قاسية جداً على طهران. الولايات المتحدة تسعى للحصول على تنازلات مهمة من إيران في الملف النووي وفي ملفات إقليمية أخرى، قبل الإنتخابات الأميركية في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، تُساعد في تأمين فوز مرشح الحزب الجمهوري الرئيس الحالي دونالد ترامب، لذلك تستعمل كل ما في حوزتها من أوراق ضغط وفي كل ساحات الصراع. وإيران من جهتها ترفض تقديم تنازلات وإجراء تسوية مع رئيسٍ مُرشَّح مشكوكٌ بإعادة انتخابه، وتستعمل الأوراق التي في حوزتها للضغط على الادارة الأميركية مُتحدّثةً عن مفاجآت ستجبر الأميركيين على الانسحاب من المنطقة، ما سيؤدي إلى تراجع نفوذهم. وفي كل الأحوال إذا لم تنجح الضغوط القاسية، التي يُمارسها الطرفان، إلى إبرام تسوية ما في الأشهر الثلاثة المقبلة، فإن اشتداد هذه الضغوط يمكن أن يؤدي إلى انفجار عسكري يُلزم الطرفين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات لصياغة تسوية مؤقتة تعكس موازين القوى الفعلية على الأرض. وفي إطار الكباش الأميركي-الإيراني يُراقب المعنيون مسارات الإنتخابات الرئاسية الأميركية، والإنتخابات الإيرانية في آذار (مارس) 2021، والانتخابات الرئاسية السورية في أيار (مايو) 2021 والتي تلعب روسيا دوراً مؤثراً فيها. فهذه الإنتخابات يُمكن أن ترسم ملامح مستقبل المنطقة، وما على اللبنانيين إلّا الإنتظار والصبر لمعرفة المستقبل الذي يُحضَّر لهم.

2- مقابل إعلان القدس عاصمة للدولة اليهودية والمباشرة بضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية إلى الكيان الإسرائيلي مما يوسع حدود الأراضي المُغتَصبة، تعيش الدول المحيطة والقريبة من دولة العدو حالات تفكك وتشرذم تُنبىء بمخاطر مُستقبلية على وحدة وقوة ومناعة كل منها. فسوريا التي تعيش أسوأ أيامها منذ غزاها التكفيريون من كل أنحاء العالم بدعمٍ أميركي تركي أوروبي خليجي، مُعرَّضة للشرذمة إلى مناطق تتمتع بالحكم الذاتي وتشكل ساحات سهلة للتدخلات الخارجية. إن الحصار والعقوبات اللذين تواجههما سوريا، وآخرها قانون قيصر، يعودان في الدرجة الأولى إلى رفض الرئيس بشار الأسد التنازل عن مركزية الدولة السورية ووحدة أراضيها. وتُراهن الولايات المتحدة مع حلفائها على إزاحة هادئة للرئيس السوري في الإنتخابات الرئاسية المقبلة مما يسمح لها بتنفيذ مخططها. وإذا كانت إيران والقوى الحليفة لها تدعم بكل قوة الرئيس الأسد، فإن الموقف الروسي الذي يتّسم بالغموض يُمكن أن يُشكل مفاجأة هذه الانتخابات ويُغير موازين القوى، وذلك على ضوء المفاوضات الأميركية-الروسية والمُرتبطة بدورها بالإنتخابات الأميركية.

وسوريا الموضوعة في غرفة العناية الفائقة، رغم الإنتصارات التي حققها الجيش السوري باستعادة حوالي 85% من الأراضي السورية، تركن إلى جانب العراق المُعرَّض بدوره للتفكك والشرذمة إلى أقاليم ثلاثة: شيعية وسنية وكردية. فالدولة العراقية التي بناها الرئيس صدام حسين، والتي تميزت بدرجة عالية من التقدم والنمو رغم الممارسات الوحشية للنظام، تعرّضت مع الغزو والإحتلال الأميركي لها، إلى عملية تدمير مُمَنهجة قضت على كل مؤسساتها وقطاعاتها العسكرية والأمنية والاقتصادية والمالية، وجعلتها فريسة سهلة أمام قوى التكفير والظلام التي دمّرت كل ما يمت فيها الى الحضارة الإنسانية بصلة. وقد أدّى نشر “الديموقراطية الأميركية” في العراق إلى سقوط وإعاقة وتشريد مئات آلاف العراقيين، وتدمير البنى التحتية والاستيلاء على النفط. وفي مواجهة الولايات المتحدة تُحاول إيران بسط نفوذها على الدولة الجارة مُستعينة بقوى عراقية وازنة على رأسها تنظيم الحشد الشعبي. ويُشكل العراق، إضافة إلى سوريا، ساحة مواجهة مكشوفة ومفتوحة على كل الاحتمالات بين القوتين الأميركية والإيرانية وحلفائهما. فهل سيبقى العراق مُوحَّداً أم سيتعرَّض للتفكك أيضاً؟

وإلى جانب العراق وسوريا يعيش لبنان أزمة وجودية أيضاً، في الذكرى المئوية الأولى على إنشائه. فالمُكوّنات الطائفية والجماعات اللبنانية عجزت خلال القرن الماضي عن بناء دولة ووطن. والأزمات والحروب التي عاشها اللبنانيون والتي انتهت باتفاقات، أبرزها اتفاق الطائف، لم تساعد على بناء الدولة المدنية ولا على بناء مُواطن وهوية. فالجماعات بقيت أسيرة مُعتقداتها وخوفها على وجودها ولم تخرج من شرانقها لتلتقي بالآخر وتبني معه دولة المواطنة. لذلك كلما هبّت العواصف الخارجية واشتدت الأزمات الداخلية تعود هذه الجماعات، التي فرزتها الحروب الأهلية في مناطق جغرافية، إلى التفكير مُجدَّداً في مدى ضرورة بقاء لبنان دولة مركزية مُوَحَّدة. وفي ظل المشاريع التقسيمية التي يجري الترويج لها في المنطقة، من سوريا إلى اليمن مروراً بليبيا وبعض دول الخليج، تبرز إمكانية إعادة النظر في الصيغة اللبنانية، التي تُعاني مجموعة من الأزمات المتشابكة، من خلال مؤتمر تأسيسي أو عقد اجتماعي جديد.

3- إن الحصار والعقوبات اللذين فرضتهما الولايات المتحدة على لبنان بحجة معاقبة “حزب الله” ونزع سلاحه، أدّيا إلى أزماتٍ مالية واقتصادية ومعيشية أصابت كل مُكوّنات المجتمع اللبناني، ولم تؤثر إلا بشكل محدود في الحزب وبيئته. فمن الخطأ الاستراتيجي التعامل مع “حزب الله” على أنه فريق طارئ على المجتمع اللبناني، فهو جزء صلب من هذا المجتمع ولا يحوز فقط على تأييد الأغلبية الساحقة من أبناء الطائفة الشيعية، بل له مؤيدون عند كل الطوائف والجماعات داخل وخارج لبنان. لذلك فإن العقوبات الأميركية ستُصاب بالفشل ولن تؤدي إلى نتيجة، وستزرع الحقد عند شرائح واسعة على الأميركيين وسياساتهم. وإذا كانت الولايات المتحدة تسعى إلى خنق “حزب الله” من خلال إجراءاتها، فماذا ستفعل مع حلفائها اللبنانيين الذين يُناهضون الحزب وسلاحه وسياساته، فهل ستخنقهم أيضاً أم ستحافظ عليهم للاستفادة من مواقفهم في المستقبل؟ فإذا ساعدت حلفاءها عبر ضخ المال والغذاء لهم، مقابل المال والغذاء اللذين يحصل عليهما الحزب ومؤيدوه من إيران ومن مصادر أخرى، سيفشل الحصار ولن يؤدي إلى نتيجة. أما إذا رفضت مساعدة حلفائها فإن الأزمة المعيشية وشبح المجاعة سيجبرهم على التوجه إلى الحزب وبيئته لتأمين حاجاتهم مع إمكانية تحوّلهم إلى مؤيدين للمقاومة، أو محايدين على الأقل. فماذا تكون الولايات المتحدة قد حصدت من عقوباتها؟

أهداف العقوبات والضغوط الأميركية على لبنان لا تنحصر في نزع سلاح “حزب الله”، بل هناك أهداف أخرى تتناول الحدود البحرية مع كيان العدو واستخراج النفط والغاز، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين، واحتضان النازحين السوريين لاستعمالهم في الانتخابات الرئاسية السورية المقبلة. المرحلة صعبة وقاسية، والفقر سيزداد، ونمط معيشة اللبنانيين سيتغير، لكن الأشهر المقبلة ستكون حبلى بالمفاجآت، وما على اللبنانيين إلا الصبر وعدم الوقوع ضحايا الإشاعات والحرب الإعلامية النفسية التي تُشنّ عليهم وتشارك فيها جهات سياسية ومصرفية وإعلامية. فلبنان لن يتفكك ولن يجوع رغم قساوة الأزمات وتشابكها.

  • الدكتور هيكل الراعي هو باحث وأستاذ جامعي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى