تَسخينُ الكثير من “الصراعات المُجَمَّدة” ليسَ مُجَرّد مصادفة

كابي طبراني*

عاد الإسرائيليون والفلسطينيون إلى الحرب مرة أخرى، مع ما يترتب على ذلك من عواقب محتملة ــ بما في ذلك خطر نشوب صراع أوسع نطاقًا ــ في المنطقة بأكملها. في صباح يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، أطلقت حركة “حماس” الفلسطينية عملية “طوفان الأقصى” التي أغرقت جنوب إسرائيل بوابلٍ من القذائف والصواريخ وبأكثر من 2000 مقاتل من البر والبحر والجو استهدفوا عسكريين ومدنيين إسرائيليين. وعقب الهجوم، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: “أيها المواطنون الإسرائيليون، نحن في حالة حرب … سيدفع العدو ثمنًا غير مسبوق”.

الحلقة بأكملها مأسوية. وبغض النظر عن موقفنا من القضية الفلسطينية، فإنَّ استهدافَ “حماس” المباشر للمدنيين قد أعطى إسرائيل الذريعة واليد الطولى على صعيد ال”بروباغندا” لاجتذاب واستقطاب العطف الدولي الذي كانت خسرته سابقًا. علاوةً على ذلك، ونظرًا إلى الحجم المُتوَقَّع للرد العسكري الإسرائيلي على الهجمات المدعوم من الغرب، يبدو أن تصرفات “حماس” من شأنها أن تؤدّي إلى تفاقم المحنة التي يعيشها الشعب الفلسطيني بشكلٍ كبير، ولن تؤدّي إلى تحسينها.

في مقالةٍ سابقة، كتبتُ عن الكيفية التي تعمل بها الحرب في أوكرانيا على إضعاف النظام الأمني العالمي. لقد أشرتُ إلى العديد من الأزمات وكان من الممكن للأسف أن أُشيرَ إلى المزيد منها، لكنني كتبتُ تلك المقالة قبل هجوم “حماس”. فهل تُناسِبُ هذه الحرب هذا النمط؟ فهل يستطيع المرء أن يزعمَ أن هذا أيضًا كان نتاجًا لعوامل دولية أكبر تعمل على تمكين الصراعات من كوسوفو إلى ناغورنو كاراباخ؟

فمن ناحية، يمكن النظر إلى الحرب الجارية في غزة على أنها مستقلة تمامًا عن الحرب في أوكرانيا والأزمات العالمية الأخرى. ففي نهاية المطاف، كان التوتر والعداء الصريح بين إسرائيل و”حماس” مُستَمرّين لسنوات عديدة. وقد أدى ذلك إلى دوراتٍ متكررة من العنف، بما في ذلك الصراع الذي حدث أخيرًا في العام 2021. وأصبح الوضع قابلًا للاشتعال أكثر من أيِّ وقتٍ مضى في ظل حكومة بنيامين نتنياهو التي دفعت من أجل بناء المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية، وحافظت على الحصار الإسرائيلي طويل الأمد على غزة ولم تُظهِر أبدًا اهتمامًا بالتوصل إلى تسوية تفاوضية مع الفلسطينيين. والواقع أن سياسات نتنياهو تجاه الفلسطينيين والميول الأوسع المناهضة للديموقراطية لحكومته كادت أن تؤدي إلى تقويض العلاقات مع بعض أقوى مؤيدي إسرائيل، مثل الولايات المتحدة. وكانت العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة في العام 2021 أثارت إدانة دولية واسعة النطاق. كما إن الجهود المبذولة لإيجاد “حل الدولتين” السلمي عبر عملية أوسلو للسلام ما زالت منذ فترة طويلة مُجَمَّدة.

فضلًا عن ذلك، فإن توقيت عملية “حماس” يتوافق تقريبًا مع الذكرى الخمسين لهجوم مفاجئ كبير آخر ضد إسرائيل: “حرب أكتوبر” أو حرب “يوم الغفران” في العام 1973. لكن تلك الحرب شنّتها قوات خمس دول عربية على الأراضي التي استولت عليها إسرائيل خلال حرب الأيام الستة في العام 1967، بما في ذلك شبه جزيرة سيناء والضفة الغربية، وليس داخل إسرائيل نفسها. علاوةً، كانت عملية عسكرية بحتة ولم تستهدف المدنيين. ومن حيث الدمار داخل إسرائيل نفسها وعدد القتلى، بشكلٍ عام وفي صفوف المدنيين، فإن ضربة “حماس” كانت على مستوى غزو الدول العربية في العام 1948 ضد إسرائيل بعد وقتٍ قصير من إعلان استقلالها كدولة.

من ناحية أخرى، فإن الحربَ التي تتكشّف حاليًا في غزة تتناسب بوضوح مع النمط الأوسع الذي حددته في مقالةٍ سابقة، من حيث أنها توضّح انهيار النظام الأمني العالمي وهي نتاجٌ له في الوقت عينه. إن الإشارة إلى الأسباب والجذور الفريدة للصراع لا تفسّر لماذا يصبح هذا الصراع ساخنًا أو يظل باردًا في لحظة معينة من الزمن. خاضت أرمينيا وأذربيجان ثلاث حروب سابقة على مرّ السنين، لكن العنف تراجع بعد ذلك. وعلى نحو مماثل، خاضت صربيا حربًا في كوسوفو، الأمر الذي دفع منظمة حلف شمال الأطلسي إلى الرد في العام 1999. ومنذ ذلك الحين انتشرت قوات حفظ السلام على الأرض، وظلت التوترات مرتفعة. لكن العنف لم يندلع. وفي كلتا الحالتين، ظل الوضع الراهن للصراع المُجَمَّد قائمًا، إلى أن تغيّرَ الوضع أخيرًا.

وكما ناقشتُ في مقالةٍ أخرى حديثة، فإنَّ ضبابَ الحربِ كثيف، خصوصًا عندما يتعلق الأمر ببداية الحرب. ولكن عندما تحدث سلسلة من الحروب والأزمات في الوقت نفسه أو في فتراتٍ متقاربة، فمن غير المعقول، وإن لم يكن من المستحيل، أن نعزو الأمر إلى المصادفة.

الحروبُ هي نتاجُ عوامل محلية وقريبة وعوامل أوسع على مستوى النظام. إن التكوين الحالي للنظام الدولي ــ الذي ظهرت فيه التعددية القطبية واستحوذت حرب كبرى في أوروبا على اهتمام الولايات المتحدة والقوى الأخرى التي لعبت تقليديًا أدوارًا رئيسة في التوسط والحفاظ على السلام في الشرق الأوسطــ هو وصفة لذوبان الجليد عن الصراعات المُجَمّدة.

على سبيل المثال، بدت كلٌّ من الولايات المتحدة والقوى الأوروبية غير راغبة أو غير قادرة على تخصيص الموارد اللازمة للضغط على حكومة نتنياهو لحملها على التنصّل من السياسات التي كانت تؤجّجُ الوضع. وفي الواقع، لم تقم واشنطن حتى بتعيين سفيرٍ لها في إسرائيل. ومن الواضح أن إدارة الرئيس جو بايدن كانت أكثر اهتمامًا بصفقة تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل في محاولةٍ لبناء تحالفٍ ضد إيران، على الرُغم من أنه لم يكن من الواضح على الإطلاق كيف ستَحُلُّ هذه العملية فعليًا مسألة الوضع الدولي لفلسطين. ويبدو أن المسؤولين الأميركيين والأوروبيين كانوا يأملون ببساطة أن يظلَّ الوضعُ في مؤخرة الاهتمامات بينما يعالجون قضايا أخرى أكثر إلحاحًا. وقد ثبت أن ذلك كان حماقة.

الافتقار إلى ضغطِ دولة رئيسة أو وجودها يُعَدُّ عاملًا تمكينيًا. ولكن من الممكن أن تكون هناك صلة أكثر مباشرة بين الظروف الدولية وبداية الحرب في غزة. العملية التي نفّذتها “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) كانت مُعَقّدة للغاية وكثيفة الموارد. واستلزم الأمر إطلاق أكثر من 3000 صاروخ ونشر طائرات مسيّرة والتنسيق بين قواتٍ برية وبرمائية. ومن المُحتَمل أن التدريب والتنسيق والموارد اللازمة لتنفيذ مثل هذه العملية تتطلّب الدعم والمساعدة. المصدر الأكثر ترجيحًا لمثل هذه المساعدة هو إيران، راعية “حماس” منذ فترة طويلة، والتي وصفها مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان بأنها “متواطئة” بالفعل في الهجمات، على الرُغم من عدم وجود دليل حتى الآن على أن طهران لعبت أيّ دور تنظيمي أو تنفيذي مباشر في الهجوم بحدّ ذاته.

مع ذلك، سيكون لدى طهران سببٌ وجيه للشعور بالجرأة هذه الأيام. بفضل الحرب في أوكرانيا، لم تعد إيران دولة منبوذة معزولة على الساحة الدولية. فهي باتت بعيدة من ذلك. على سبيل المثال، في حين كانت موسكو أحد الأطراف الرئيسة التي ساعدت في الضغط على طهران لقبول الاتفاق المتعدد الأطراف الذي حدَّ من برنامجها النووي المدني في العام 2015، فإنَّ روسيا تعتمد الآن على دعم طهران في مواصلة الحرب في أوكرانيا. في الواقع، يبدو أن هذا الدعم قد تمّت مكافأته أخيرًا بدعوة إيران للانضمام إلى مجموعة دول ال”بريكس” التي تسعى إلى إيجاد بديل من النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.

هل هناك بصيصٌ من الأمل؟ هل هناك سببٌ للاعتقاد بأن هذا التصعيد المفاجئ في الصراع سوف ينحسر قريبًا؟ لا توجد طريقة لمعرفة ذلك، ولكن في الوقت الحالي تبدو التوقعات قاتمة. قد تنتهي الحرب الحالية في غزة بسرعة، ولكن إذا حدث ذلك فإنها لن تعود إلّا إلى حالةٍ من الركود المُتَجمِّد وغير المستقر. علاوة على ذلك، مع عدم وجود نهاية في الأفق للحرب في أوكرانيا، فسوف تستمر في جذب انتباه وموارد البلدان الأكثر قدرة على وقف الأزمات الأخرى. والنتيجة هي أن الأزمات والحروب سوف تستمر في التدفق، والمرشح الرئيس الآن هو الحرب في غزة ذاتها، والتي لا تزال تهدد بالتوسع إلى صراع إقليمي أوسع.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى