“حزبُ الله” في مَأزق

مع تصاعد الصراع مع إسرائيل، أصبح الطريق إلى الأمام أمام “حزب الله” مُتعثِّرًا ومحفوفًا بالعقبات والتحدّيات.

مَن سيُعيدُ البناء والإعمار؟

مها يحيى*

مع تصاعُدِ الصراعِ بينه وبين إسرائيل، وَقَعَ  “حزبُ الله” في مأزق. لقد أصبحت قدرته على الرَدعِ في مواجهةِ إسرائيل مُقَيَّدة للغاية بسببِ عدمِ رغبته في إشعالِ حربٍ شاملة من شأنها أن تُسَبّبَ المزيدَ من الخراب في لبنان، وتُقوِّضَ هيمنةَ الحزب، وتزيدَ من تفاقُمِ التوتّرات الداخلية حول دوره في البلاد. ومن غيرِ الواضح ما هو الشكل الذي سيخرج به الحزب من بين أنقاضِ الدمارِ الذي لحقَ بلبنان، وكذلك ما قد يعنيه هذا بالنسبة إلى ديناميكيات لبنان الداخلية.

كانت ردودُ أفعالِ الطوائف الدينية في لبنان تجاه الهجوم الإسرائيلي مُتعدّدةً ومُتباينة، واتّسمت بتاريخ “حزب الله” المُعقَّد والمُتقلِّب داخل البلاد. إنَّ الهجمات المباشرة ضد أعضاء “حزب الله”، مثل الهجمات الإرهابية التي شنّتها إسرائيل بتفجير أجهزة النداء والإتصال في الأسبوع الفائت، والتي أسفرت عن مقتل اثني عشر شخصًا وإصابة ما يقرب من ألفي شخص آخرين، أدّت إلى إطلاقِ حملةٍ وطنية للتبرُّع بالدم. في الوقت نفسه، أعربَ الكثيرون من اللبنانيين، في محادثاتهم خاصة ومن خلال وسائل التواصل الإجتماعي، عن شعورهم بأنَّ “حزب الله” يحصُدُ ما زرعه. وفي الأيام الأخيرة، تمَّ استقبالُ السكان النازحين من جنوب لبنان بسبب القصف الإسرائيلي المستمر الذي بدأ في 23 أيلول (سبتمبر) بأذرُعٍ مفتوحة في جميع أنحاء البلاد. لكن حتى مع إظهار اللبنانيين التضامن في مواجهة الإجراءات الإسرائيلية، هناكَ غضبٌ يتصاعد من جَرِّ لبنان مرةً أخرى إلى حربٍ لا يريد معظم الناس في البلاد المشاركة فيها. حتى حلفاء “حزب الله” منذ فترة طويلة، مثل الرئيس اللبناني السابق ميشال عون، انتقدوا تورّطه في صراع غزة.

هذه التوتّرات كانت مدفوعةً أيضًا بنفوذ “حزب الله” الهائل في البلاد، ودوره المُتنامي في الصراعات الإقليمية، وشهيته لنشر القوة العسكرية ورأس المال السياسي داخليًا لعرقلة الإصلاح وحماية مصالحه فضلًا عن الوضع الراهن. وقد بدأت مثل هذه التوتّرات الظهورَ في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من جنوب لبنان في العام 2000، وإصرار “حزب الله” يومها على الاحتفاظ بأسلحته لمقاومة إسرائيل.

وفي أعقابِ الحربِ مع إسرائيل في العام 2006، حشد “حزب الله” دعمًا واسعَ النطاق في مختلف أنحاء العالم العربي. وتمكّنَ حينها من تهدئةِ السخطِ المحلّي جُزئيًا إزاء الصراع، الذي أثارته حساباته الاستراتيجية الخاطئة، من خلال بناء تحالفاتٍ سياسية مُسبَقًا. وكان أبرز هذه التحالفات شراكته مع “التيار الوطني الحر” بزعامة عون. وفي وقتٍ لاحق، طوّرَ “حزب الله” علاقته، وإن كانت غير مستقرة في بعض الأحيان، مع “تيار المستقبل” بزعامة رئيس الوزراء السابق سعد الحريري، وتعاونَ بشكلٍ مُتقلّب مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. ولكن، على مدى العقد الفائت، تآكلَ أيُّ تعاطُفٍ محلي مُتبقٍّ إلى حدٍّ كبير تجاه الحزب بسبب تصرّفاته.

في تشرين الثاني (نوفمبر) 2006، سحب “حزب الله” وزراءه من الحكومة اللبنانية، في محاولةٍ للإطاحةِ بها، في حين نظّمَ اعتصامًا حول السراي الكبير، مكتب رئيس الوزراء آنذاك فؤاد السنيورة. وفي أيار (مايو) 2008، شعرَ اللبنانيون بالخوف والفزع إزاء استعداد “حزب الله” لتحويل أسلحته، التي يُفتَرَض أنها كانت مُخصَّصة لمقاومة إسرائيل، ضد مواطنيه اللبنانيين. واستولى مسلحّوه على غرب بيروت لمدة أسبوع، ما أدى إلى اندلاعِ صراعٍ أهلي صغير. وكان هذا ردًّا على قرار الحكومة اللبنانية بتعطيل شبكة الاتصالات الخاصة ب”حزب الله”، وهي الخطوة التي اعتبرها الحزب أنها تُقوِّضُ المقاومة.

في العام 2011، وجدت المحكمة الخاصة بلبنان، التي أُنشِئت بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في شباط (فبراير) 2005، أنَّ أعضاءً من “حزب الله” مسؤولون عن الجريمة. ويعتقدُ العديدُ من اللبنانيين أنَّ الحزبَ كان أيضًا وراء سلسلة الاغتيالات التي أعقبت مقتل الحريري، والتي شملت برلمانيين وصحافيين وشخصيات عامة معارضة له، وكان بعضهم من الشخصيات البارزة في كلٍّ من الطائفتين السنّية والمسيحية.

منذ العام 2019، ازداد الاستياء تجاه “حزب الله” بين شرائح كبيرة من السكان اللبنانيين أيضًا بسبب دور الحزب في عرقلة الإصلاح وحماية الوضع الراهن. وكان هذا السلوك أكثر وضوحًا في ردود أفعاله على المظاهرات المناهضة للنظام التي اجتاحت البلاد في تشرين الأول (أكتوبر) من ذلك العام والاعتداءات على المحتجين. كما أدت الشكوك حول تورّط “حزب الله” في تخزين ما يزيد على 2000 طن من نيترات الأمونيوم في مرفَإِ بيروت، الذي دَمَّرَ نصف المدينة في 4 آب (أغسطس) 2020، ومنعه اللاحق للتحقيق في انفجار المرفَإِ، إلى تكثيف وزيادة الغضب ضد الحزب، مما أدى إلى تعميق التوترات الطائفية. وكان هذا الغضب واضحًا في حوادث عدة، بما في ذلك المواجهة العسكرية بين “حزب الله” وعشيرة سنية في آب (أغسطس) 2021 في خلدة، وفي الوقت عينه تقريبًا مشادة مع أفراد من الطائفة الدرزية في بلدة شويا، الذين منعوا أفرادًا من “حزب الله” من إطلاق الصواريخ من بلدتهم. وعلى الصعيد السياسي، أدت مثل هذه التوترات إلى دعوات لتبنّي لبنان لنظامٍ فيدرالي، وهي وجهة نظر تحظى بشعبية متزايدة بين مسيحيي البلاد.

وتآكل الدعم الإقليمي ل”حزب الله” بعد أن استخدم أسلحته جُزئيًا ضد مواطنيه اللبنانيين. وقد تفاقم هذا الوضع بسبب تدخل الحزب في الصراع السوري في العام 2012 دفاعًا عن نظام الرئيس بشار الأسد، حيث قتل الآلاف من السوريين السنّة في الغالب وشرّد ملايين آخرين قسرًا. كما أدى دعم “حزب الله” ل”أنصار الله” (حركة الحوثي) في اليمن إلى تفاقم العلاقات السيئة مع المملكة العربية السعودية، التي كانت تاريخيًا لاعبًا رئيسًا في لبنان. وجاء هذا في سياقٍ إقليميٍّ أوسع من المنافسة المتعمّقة بين السعودية وإيران. وبالنسبة إلى العديد من اللبنانيين وغيرهم، فإنَّ تحالف “حزب الله” مع إيران جلب له فوائد كبيرة، في حين أضعف لبنان بشكل كبير.

والسؤال اليوم هو أنه في حين يُظهِر اللبنانيون مرة أخرى تضامُنًا ودعمًا ملحوظَين في مواجهة هجمات إسرائيل، فإنَّ الخسارة الكبيرة في الأرواح والدمار الواسع النطاق يؤكّدان فشل معادلة الردع ل”حزب الله” مع إسرائيل. ويرجع هذا الفشل جُزئيًا إلى الطبيعة المتغيِّرة للحرب المعاصرة. إنَّ نهجَ “حزب الله” في التعامل مع الصراعات يَتَّسمُ بمنظور القرن العشرين الذي لم يأخذ في الاعتبار التحوُّل الجذري في طبيعة الحرب الذي أتاحته الأسلحة الجديدة والتقدّم التكنولوجي، والذي تتمتع فيه إسرائيل بتفوُّقٍ واضح. كما قلّلَ “حزب الله” من تقدير الدعم العسكري والسياسي الغربي المفتوح لإسرائيل في الصراع.

إنَّ كلَّ هذا يخلق تحدّياتٍ كبيرة ل”حزب الله” في المستقبل. في حين سيظل الحزب جُزءًا قابلًا للاستمرار في المشهد الداخلي اللبناني، فسوف يضطر إلى التكيُّف مع الظروف الجديدة التي سوف يصبح فيها هامش المناورة لديه أكثر محدودية. ورُغمَ أنَّ نتيجةَ الصراع لم تتحدّد بعد، فسوف يحتاج “حزب الله” إلى التعامل مع الموت والدمار الذي لحق بأعضائه وحاضنته على وجه التحديد، ولبنان على نطاقٍ أوسع، وسوف يسعى إلى التخفيف من أيِّ تحدّيات لهيمنته السابقة. إنَّ العدد الكبير من الضحايا في صفوف الحزب، والذي يتضح من الهجمات المستهدفة العديدة، والاختراق العميق لإسرائيل لأجهزته الأمنية، والآن الدمار الواسع النطاق في لبنان، قد ضرب قلب رواية الحزب عن المقاومة والردع، والتي تشكل حجر الزاوية لهويته. ليس هناك شك في أنَّ “حزب الله” سوف يسعى إلى حماية مكاسبه السياسية ومكانته كممثل للطائفة الشيعية داخل النظام اللبناني.

كيف سيفعل ذلك يبقى أن نرى. هل سيُعزّز هويته الطائفية، كما فعل في الماضي عندما واجهَ تحدّياتٍ مماثلة، ويحشد الطائفة الشيعية إلى جانبه، على الرُغم من المُعاناة التي تحمّلتها الطائفة؟ أم أنه سيسعى إلى إعادة اختراع نفسه وربما دعم إعادة تشكيل نظام الحكم في لبنان بطرق لم نشهدها بعد؟

علاوةً على ذلك، ربما تعزّزت حالةُ عدم الارتياح التي انتابت الحزب بسبب الرسائل المختلطة التي أطلقها المسؤولون الإيرانيون في افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الأسبوع في نيويورك بشأن دعمهم ل”حزب الله” أثناء الصراع الحالي. وسوف يكشف الوقت ما إذا كانت إيران على استعداد للتضحية ب”حزب الله”، الآن بعد أن ضعفت قدرته على الردع، في مقابل مكاسب مباشرة لمصالح طهران الخاصة. وفي داخل لبنان، يتساءل كثيرون عمّن سيدفع المليارات من الدولارات اللازمة لرعاية اللبنانيين المصابين بسبب القصف الإسرائيلي وإعادة بناء ما دمرته إسرائيل، وخصوصًا في المناطق الشيعية في الأساس حيث وقع الجُزء الأكبر من الدمار. من المرجح أن يأتي الاعتماد على المجتمع الدولي لإعادة الإعمار مصحوبًا بثمن سياسي قد يُطلب من “حزب الله” دفعه. ومن الممكن أن يؤثر هذا في نتيجة الانتخابات الرئاسية، في حين قد يحاول آخرون وضع استراتيجية الدفاع اللبنانية ودور “حزب الله” فيها على الطاولة، وهو ما كان يعارضه الحزب سابقًا.

وفي حين لم يتحدّد بعد شكل الاتفاق الديبلوماسي الذي سينهي هذه الجولة من الصراع، فإنَّ المؤكد هو أنَّ الطريق إلى الأمام بالنسبة إلى الحزب محفوفٌ بالعقبات. ولكن كيف سيتغلب على هذه التحديات؟ هذا ما زال يتعيّن علينا أن ننتظر لمعرفة الجواب.

  • مها يحيى هي مديرة مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط، حيث تُركّزُ أعمالها على نطاق واسع على العنف السياسي وسياسات الهوية، والتعدّدية، والتنمية والعدالة الاجتماعية بعد الانتفاضات العربية، وتحديات المواطنة، والتداعيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لأزمة الهجرة/اللاجئين. يُمكن متابعتها عبر منصة “X” على: @mahamyahya

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى