كم يوضاسًا في لبنان تنتظرُهم تينةٌ يابسة؟

بقلم  هنري زغيب*

في زَمَن الفصح نحن، إِذًا في زَمَن “التَوبة عن”، و”النَدَم عمَّا”.

يحضرُني في هذه المناسبة كتابُ أَمين الريحاني “سجِلّ التوبة” (القاهرة 1951) وعلى غلاف طبعته الثالثة (دار الريحاني 1973) كتَبَ ناشرُه أَلبرت الريحاني أَنه “كتابُ النَدَم، فيه مُعَانيَاتُ مآسٍ سياسية واجتماعية كان يعاني منها الشرقيُّ في مطلع هذا القرن… وفي قصصه سجلُّ أَشخاصٍ عجِزوا فجاءت توبتُهم متأَخِّرة، واكتسَوا مفهومًا رمزيًّا لواقعنا السياسي الـمُعاصر”.

الكتابُ من فصل مسرحي (في 3 مشاهد) وأَربع قصص قصيرة، آخُذُ منها الأَخيرة: “بِقَضاء وقَدَر”. عرَّفها الريحاني بــ”قصة سياسية رمزية”، روى فيها قصة مدينة نِبَال في بلاد هيرُوس، كان يحكم أَحياءَها الخمسةَ “خمسةُ حُكَّامٍ شيوخ يمتصُّون دمَ الشعب كالعَلَق”. كان كلُّ حيٍّ مستقلًّا عن الآخر، سكانُه يعيشون فيه متقاطعين متنابذين، يستغلُّ واحدُهم الآخَر، ولا يعرفون من قواعد الحياة الإجتماعية إِلَّا واحدةً قديمة: “الطاعة للكبير والعصا للصغير”. كان ينشأُ كبيرُهم على ثلاثة: حُب الذات، حُب المال، حُب الجاه، وينشأُ صغيرُهم على الانصياع والخنوع، فتفشَّى في الأَحياء الخمسة الفقرُ المالي والأَخلاقي، والمواطنون يُعانون مقهورين ولا يرفعون الصوت اعتراضًا لأَن شُيوخهم الحُكَّام، سائسيهم صلَفًا وتضليلًا، كانوا يَسوسونهم بتعاليم كُتُبٍ دينية محلية، عقيدتُها أَن “الشعوب تَشقى وتَسعَد بقضاءٍ وقَدَر”.

جاء فاتح من الشرق احتلَّ مدينة نِبَال وكل بلاد هيرُوس، فرضيَ الشعب خانعًا وفْق عقيدة “بقضاءٍ وقَدَر”، ثم جاء فاتح من الغرب واحتلَّ البلاد فرضيَ الشعب خانعًا وفْق عقيدة “بقضاءٍ وقَدَر”. وتقهقرَت البلاد عامًا بعد عامٍ: انتشَر فيها الفقر والجوع، وهاجمتْها أَوبئةٌ قاتلة من كلِّ نوع، والشعبُ خانعٌ خاضعٌ راضٍ مكسُورٌ مهمومٌ مقتنعٌ بتعاليم الحكَّام الشيوخ أَنَّ كلَّ ما يصيبه ويصيب البلاد إِنما يتمُّ “بقضاءٍ وقَدَر”، لذا “كانوا يُطأْطئُون رؤُوسهم طوعًا وحُزنًا ويسترحمون الله”.

ذات ليلة شبَّ في أَحياء كبرى من المدينة حريقٌ كبير قضى على ما فيها فاستحالت تلك الأَحياءُ “ركامًا تحت سقوف هاوية وبين جدران متهدِّمة”. وحين استيقظ المواطنون صباحًا، ردَّدوا بحُزن وأَسى: “صَدَقَ حكَّامُنا الشيوخ المباركون: ما يُصيب بلادَنا هو حقًا بقضاءٍ وقَدَر”.

تذكرتُ قصة الريحاني هذه، ونحن في زمن الفصح: إِذًا في زمن “التوبة عن”، و”الندم عمَّا”.

فهل – بعدَ كلِّ ما يحلُّ ببلادنا من نكبات – ما زال شعبُنا مُصِرًّا على تصديق “حكَّامنا الشيوخ” بأَنَّ ما يُصيب بلادَنا هو حقًا بقضاءِ وقَدَر”؟

وإِذا كان يوضاس (يهوذا الإِسخريوطي) انْشَنَقَ على تينةٍ يابسةٍ ندَمًا نافلًا وتوبةً متأَخِّرة على تسليمِه يسوعَ إِلى جلَّاديه حتى صَلَبُوه، فكم يوضاسًا في لبنان عليهم أَن يَنْشَنِقُوا لأَنهم خانُوا شعبَ لبنان وسلَّموه إِلى هذا المصير الفاجع من البؤْس والخطر؟ وكم تينةً يابسةً نُهيِّئُ لهؤُلاء اليوضاسيين عقابًا على ضمائرِهم الـمُجرمة؟

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه: henrizoghaib.com
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العَرَب” تَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة “النهار” – بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى