“كوفيد-19” يفضح هشاشة البنى التحتية الصحية المصرية وخطأ سياسات النظام

تتسبب الشوائب الهيكلية في النظام الصحي وفي سوق العمل والسياسات الاقتصادية والاجتماعية في مصر، بتعطيل الجهود التي تبذلها الحكومة لمعالجة تفشّي فيروس”كوفيد-19″ الأمر الذي يُهدّد بانتشار الفيروس بشكل مخيف خصوصاً بين الفقراء.

 

الرئيس عبد الفتاح السيسي: عزز العسكر ونسي صحة الناس

 

بقلم ماجد مندور*

أعلن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، في 24 آذار (مارس)، عن سلسلة إجراءات من أجل مواجهة التهديد الذي تشكّله جائحة “كوفيد 19”. وتشمل فرض حظر التجوّل لمدة أسبوعَين من الساعة الثامنة مساءً حتى السادسة صباحاً تحت طائلة دفع غرامة قدرها أربعة آلاف جنيه مصري. وسبق حظر التجوال صدور قرارات بإغلاق جميع دور العبادة والمدارس والجامعات، فضلاً عن إجراءات تقضي بحضور الموظّفين والعمّال الأساسيين فقط إلى أماكن العمل في القطاع العام. ولكن في الثاني من نيسان (إبريل)، أعلن مُتحدّثٌ باسم وزارة الإسكان عن رفع هذه الإجراءات، اعتباراً من الرابع من نيسان (إبريل)، في قطاع البناء الذي يوظّف أربعة ملايين شخص. ويتسبب هذا الإستثناء بتراجع كبير في فعالية التدابير التي اتُّخِذت. وقد أعلنت الحكومة، في 22 آذار (مارس)، عن خطة تحفيز إقتصادية تشمل خفض معدلات الفوائد 3 في المئة، وإعفاء الأجانب من ضرائب الأرباح الرأسمالية وتأجيلها للمُقيمين حتى مطلع سنة 2022، وإتاحة مبلغ 100 مليار جنيه لتمويل شبكات القطاع الخاص الصناعي.

ولكن هذه المبادرات لا تُعالج مكامن الضعف البنيوية الإقتصادية والإجتماعية التي تجعل مصر ضعيفة وشديدة الهشاشة إزاء تفشّي الفيروس. والسبب وراء هذا الخلل هو إعطاء الأولوية للإنفاق العسكري في العام 2015 حين كانت مصر ثاني أكبر مستورد للأسلحة بين البلدان النامية، مع بلوغ قيمة وارداتها 11.9 مليار دولار أميركي. وقد استمرت هذه النزعة حتى العام 2020، وتتفاوض مصر حالياً على اتفاق تسلّح مع إيطاليا بقيمة 9,8 مليارات دولار من المُرتَقَب الإعلان عنه في 25 نيسان (إبريل) الذي يُصادف ذكرى تحرير سيناء. وقد استند الإصلاح الإقتصادي الذي عملت الحكومة على تطبيقه إلى الإنضباط المالي وخفض الإنفاق الحكومي، ما أفضى إلى ارتفاع مستويات الفقر وانخفاض الطلب المحلّي. وتؤدّي هذه التداعيات المُترتّبة على كاهل المُستهلكين إلى الحدّ من آفاق النمو في القطاع الخاص، ما يجعل الاقتصاد أكثر عرضةً للصدمات.

إضافةً إلى ذلك، تجلّت بوضوح شديد هشاشة النظام الصحّي المصري والنقص المُزمن في تمويل هذا القطاع. على سبيل المثال، سجّلت نسبة الإنفاق على الرعاية الصحية تراجعاً مُطرداً من 6.7 في المئة في العام 2000 إلى 4.2 في المئة في العام 2016. وفي السنة المالية 2018-2019، بلغ مجموع الإنفاق على الرعاية الصحية 25 دولاراً للمواطن الواحد، وهو مبلغ متدنٍّ جداً مُقارنةً بالمُعدّل العالمي الذي يصل إلى ألف دولار. غالب الظن أن هذا التراجع سيحدّ من قدرة النظام الصحي على استقبال الأعداد الكبيرة من المرضى الذين يُتوقَّع أن يصابوا بالعدوى في حال تفشي الوباء. أكثر من ذلك، ثمّة نقصٌ حاد في الأسرّة في وحدات العناية الفائقة. فالمعدّل في مصر هو سرير واحد لكل 813 مواطناً، علماً بأن المعدل في إيطاليا حيث توشك المنظومة السياسية على الإنهيار، هو سرير لكل 363 مواطناً. ويُضاف إلى هذا العجز النقص الشديد في الطواقم الطبية. في العام 2019، بلغت نسبة النقص في أعداد المُمرّضين في أقسام الرعاية المُركّزة 55 في المئة. ومن أصل 220,000 طبيب تابعوا تحصيلهم العلمي وتدرّجوا في البلاد، غادر 120,000 للعمل في الخارج، بسبب تدنّي الرواتب والمُستحقّات في القطاع الصحي.

تتمثّل العقبات الأخرى التي تعترض استجابة الحكومة المصرية للأزمة في القوة العاملة وسياسات الرعاية الإجتماعية. أولاً، بلغ القطاع غير النظامي مستوى غير مسبوق من التوسّع، وفي هذا الصدد أشار نائب رئيس اتحاد الصناعات، طارق توفيق، إلى أنه كان يُشكّل وفقاً للتقديرات أكثر من 50 في المئة من الإقتصاد في نيسان (إبريل) 2019. ويطرح تدنّي نسبة المُشاركة في الضمان الإجتماعي، والتي بلغت 48.1 في المئة في الإقتصاد ككل، تحدّياً جديداً يُضاف إلى التحديات التي يواجهها الإقتصاد. وقد سجّلت نسبة المشاركة في الضمان الإجتماعي تراجعاً شديداً في القطاع الخاص، وبلغت 9.6 في المئة في تشرين الأول (أكتوبر) 2019. أكثر من ذلك، يُشكّل العمال المياومون نسبة 29.2 في المئة من القوى العاملة. وبُغية معالجة بعض هذه المشكلات، أقرّ مجلس النواب قانوناً جديداً في تموز (يوليو) 2019 ينصّ على تسديد تعويضات بطالة تبلغ نسبتها 75 في المئة من الراتب الذي كان يتقاضاه الشخص، وذلك في الأشهر الثلاثة الأولى لتركه العمل. وفي الأسابيع اللاحقة، تنخفض نسبة التعويضات إلى 45 في المئة. ولكن هذا القانون لا ينطبق على أكثرية القوة العاملة المصرية، نظراً إلى أن معظم هؤلاء العمّال يعملون في القطاع غير النظامي، ولا يُسدّدون مساهمات الضمان الإجتماعي، أو أن الجزء الأكبر منهم يعمل مياوماً. ولذلك، فإن قدرة الحكومة على تقديم الدعم للأشخاص الأكثر عرضة لخسارة وظائفهم تصطدم بمحدوديات شديدة. وتبعاً لذلك، من شأن اتخاذ قرار بفرض إغلاق تام في البلاد أن يتسبب بمشقّات اقتصادية كبيرة ويؤدّي ربما إلى اضطرابات.

في محاولة لدعم العمّال المُياومين في إطار الأزمة العالمية التي يتسبب بها وباء “كوفيد 19″، قررت الحكومة تسديد دفعة واحدة لكل عامل مياوِم قدرها خمسمئة جنيه، أي 32 دولاراً أميركياً، وهو مبلغ ضئيل جداً في مواجهة وباء يستمر لوقت طويل. وفي 28 آذار (مارس)، نفت الحكومة الشائعات التي تحدّثت عن أنها ستفرض على الموظفين أخذ إجازات إلزامية في القطاعَين الخاص والعام، وأنها سوف تُسدّد رواتب موظفي القطاع الخاص للمساعدة على تجاوز الأزمة.

وقد دأبت الحكومة المصرية أيضاً على اتباع سياسات اقتصادية تسبّبت بإضعاف القطاع الخاص، بحيث إن الاقتصاد لم يعد مُسلّحاً كما يجب لمواجهة الوباء. وأفضت السياسات الحكومية إلى خفض الإستهلاك والطلب المحلّي، فأثّرت بالتالي سلباً في متانة القطاع الخاص، نظراً إلى أن انخفاض الطلب يعني تراجع الفرص المُتاحة أمام نمو القطاع الخاص. كذلك، تسبّب برنامج الإصلاح الإقتصادي الذي اعتمده النظام بتأثيرات اقتصادية مُناوئة. فقد أسفر خفض الدعم الحكومي، وفرض ضريبة على القيمة المضافة بنسبة 14 في المئة، وتعويم الجنيه المصري، عن ارتفاع مستويات التضخم من 6.9 في المئة في العام 2013 إلى 23.5 في المئة في العام 2017. وتسبّبت زيادة التضخم بارتفاع معدلات الفقر وبتدهورٍ إضافي في السوق المحلية.

في أيار (مايو) 2019، أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهو جهاز حكومي، تقريراً بعنوان “أهم مؤشرات بحث الدخل والإنفاق والإستهلاك 2017/2018”. وقد خلص التقرير إلى وجود ارتفاع شديد في مستويات الفقر النسبي والمُدقع مُقارنةً مع العام 2015. فقد ارتفعت معدلات الفقر النسبي من 27.8 في المئة إلى 32.5 في المئة في العام 2018، وارتفع مستوى الفقر المُدقع من 5.3 في المئة إلى 6.2 في المئة في الفترة نفسها. واستناداً إلى أسعار 2015، ترافق الإرتفاع في مستويات الفقر مع تراجع في الإستهلاك الأُسَري بنسبة 9.7 في المئة. وكان هذا التراجع أكثر حدّة في المدن حيث بلغ 13.7 في المئة مقارنةً مع 5.1 في المئة في الأرياف. ولا يؤدّي هذا الإرتفاع في معدلات الفقر إلى زيادة في مستوى الحرمان الإجتماعي فحسب، بل يتسبّب أيضاً بخفض الدخل القابل للتصرّف فيه. ويُمكن أن تؤدّي هذه الظروف إلى تراجع النمو في القطاع الخاص. وبحسب ما كان متوقَّعاً، في كانون الثاني (يناير) 2020، تقلّص حجم القطاع الخاص غير النفطي بوتيرة أسرع منذ ثلاث سنوات.

نموذجياً، يُمكن التعويض عن التراجع في الطلب المحلّي من خلال زيادة الصادرات؛ ولكن الصادرات تراجعت بواقع 1.66 مليار دولار بين العامَين 2013 و2018. إستناداً إلى بيانات المصرف المركزي، شكّل النفط الخام والمُنتجات ذات الصلة نسبة 41.1 في المئة من قيمة صادرات السلع في العام 2018، وقد تراجع سعر النفط بنسبة 24 في المئةأخيراً، مُسجِّلاً أدنى مستوياته منذ سنوات. ويتسبب هذا التراجع بتقليص مصدرٍ حيوي للإيرادات الحكومية. ويُتوقَّع أن تصل الخسائر في القطاع السياحي إلى مليار دولار في الشهر، بحسب ما جاء على لسان وزير السياحة خالد العناني في 16 آذار (مارس). والواقع أن هذه الخسائر في الإيرادات تتسبّب بتعطيل قدرة الحكومة على تقديم الدعم الاقتصادي للفئات الأكثر هشاشة أو على تعزيز خدمات الرعاية الصحية في فترة زمنية قصيرة.

إن مكامن الضعف البنيوية تتسبّب بتقويض جهوزية الحكومة المصرية لمكافحة الوباء، وتزيد السياسات الحكومية من حدّة هذه الشوائب. ففي ظل غياب المُساءلة العامة، طبّق النظام المصري سياسات قائمة على إنفاق المليارات على الأسلحة ما ساهم في تفاقم الفقر وانهيار القطاع الصحي ومنظومة الضمان الإجتماعي. وقد أدّى الإنزلاق التدريجي للبلاد نحو الديكتاتورية العسكرية إلى إلغاء مُتعمَّد للعملية السياسية وسيطرة النخب العسكرية، ما أتاح للنظام اتباع سياسات تعمل على تحقيق المصالح الضيّقة لهذه النُخب. ونظراً إلى هذا التحوّل الحكومي، باتت الدولة عاجزة عن أداء إحدى وظائفها الأساسية أي حماية الشعب في أوقات الأزمات.

  • ماجد مندور محلل سياسي وكاتب عمود “سجلات الثورة العربية” لدى موقع “أوبن ديموكراسي”. يُمكن متابعته عبر تويتر: @MagedMandour.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى