إلّا بلد الأرز

بقلم راشد فايد*

لم تُغيّر مخاطر الكورونا القاتلة في ذهنية الطبقة الحاكمة في لبنان. ظلّت في وادي حساباتها، التي ليس في بنودها بناء الدولة، وليس أدلّ على ذلك سوى تمسّك المُتبرّعين، عبر شاشة “أم تي في”، بأن لا يُوكَل إلى أي دائرة حكومية التصرّف بالمليارات التي أغدقوها لمحاربة الجائحة المُستجدّة.

لم تتغيّر ذرّة في مفهوم إدارة الدولة. وكل أهازيج الغيرة على حيوات اللبنانيين، في الوطن والمهجر، وأناشيد التغيير والإصلاح و”العهد القوي”، لم تجد لها صدى وترجمة لا في التشكيلات القضائية، وما تحمله من تحقيق استقلالية القضاء، جدّياً، ولا في تعيينات المصرف المركزي الشاغرة حالياً.

لا يتّفق حسن إدارة الشأن العام مع منطق التأخير والتأجيل، وترك الأمور إلى أن تسوء، ويُصبح نشدان تواطؤ المتواطئين أقصى أمنيات المواطنين كي تصلح الشؤون العامة، أو، على الأقل، كي لا تسوء أكثر، ويدفعوا الثمن. والسبب الفعلي هو أن لا مكان في الحياة العامة، للقانون، ولا مراعاة للدستور، وأن قواعد العمل الدولتي ليست ثابتة. نموذج فاضح في هذا الشأن، قانون الإنتخابات النيابية. ما أن تنتهي العملية الإنتخابية حتى ينبري زعيم كل قطيع سياسي إلى كشف مثالبه والحض على وضع قانون جديد، ثم يصمت الجميع، ليعودوا لاحقاً إلى المعزوفة نفسها، مُكلّلة بالفجور الطائفي والمذهبي لتمويه المحاصصات الحزبية، ولاحقاً، وبحجة الإستقرار يولد قانون يُكرس الموبقات السياسية نفسها. نموذجٌ آخر، مصير المغتربين. ليس في الكلام على وضعهم ذرّة علم، وبصرف النظر عن حاجة “حزب الله” إلى سيولة قد يحملونها، أو حاجة حركة “أمل” إلى توطيد العلاقة معهم، تحديداً مغتربي أفريقيا، فإن البحث في إعادتهم إلى الوطن يغرق في الحسابات السياسية والطائفية.

منطقٌ آخر يُماشي الأول، هو في مدائح “الكبار” في الوضع الأمني والإستقرار، بينما يقفلون الشوارع والساحات بحجة حفظ أمنهم، ويطوّقون قصر بعبدا والسراي بالعسكر والعسس، وقصر عين التينة، وكذا مقر مجلس النواب، اللذين يسهر عليهما 5 آلاف عنصر هم عسكر كبير النواب في مشهد لا يُوحي إلا بعدم توفّر الأمن، ويُذكّر بزمن كامل الأسعد وصبري حمادة مع شرطي أو إثنين لكلٍّ منهما، يوم كانت ساحة النجمة مُتاحة للعابرين والسيارات حتى إبان انعقاد الجلسات النيابية. وهي ظلّت كذلك، حتى بعد محاولة اغتيال الرئيس كميل شمعون.  بالطبع، لن يتغيّر أمرٌ في حكمٍ همّه أن يقال عنه أنه قوي، ولذا لا يترك لمجلس الوزراء أن يجتمع من دونه. وهو سمّى نفسه حتى قبل أن يولد، وأنكر أبوته لحكومات ترأس جلساتها، واتخذت قراراتها بتوقيعه. ولأن العهد قوي، لم يجد وزير الداخلية الجديد محمد فهمي أنسب من الإنشغال الوطني بكورونا ليزيل خِيَم الإنتفاضة. نصرٌ مزوّر على إرادة جدّية.

قد تُغيّر جائحة كورونا الكثير، وقد تُدير الصين شؤون العالم بدل أميركا أو معها، لكن الطبقة السياسية في بلد الأرز لن تتغيّر.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي، مُحلّل سياسي لبناني وكاتب رأي في صحيفة “النهار” اللبنانية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: fayed@annahar.com.lb
  • هذا المقال يُنشَر في الوقت عينه في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى