“خلّيك بالبيت”… أنتَ تصنع ثورة!

بقلم البروفسور بيار الخوري*

“خلّيك بالبيت!” (لا تذهب إلى العمل)، تعبيرٌ سقط على شعوب الارض بعد تفشّي وباء كورونا المُستَجِدّ. دبّ الرعب في الحكومات ومجتمعات الأعمال في كل مكان، وبشكلٍ رئيس في اقتصادات يُعاني معظمها أساساً من اختناقات إقتصادية وإن بدرجات مختلفة.

لبنان الغارق في أزماته وقع عليه الوباء وقع الصاعقة. إقتصادٌ مُعطَّل حلّ عليه كورونا ضيفاً ثقيلاً جداً. وفي بلد لم ينتج حتى اليوم أي قانون شامل للتعاملات الإلكنرونية وجد نفسه أمام حقيقة أنه توجّه على عجل نحو تحويل معظم أنشطته الإقتصادية الى العمل عن بُعد: التعليم عن بُعد — الذي ما زالت وزارة التربية والتعليم العالي تَستَنكف عن الإعتراف به ومعادلته حتى لو حازه الطالب من أرقى جامعات العالم– بات بين ليلة وضحاها هو القاعدة. إنجازُ الأعمال الإدارية للشركات من المنزل “جريمة” أعظم من التعليم عن بعد في ظل عقلية الدوام وبصمة الدخول والخروج، والرقابة اللصيقة المُتأتّية من ثقافة الإدارة الجزئية (Micromanagement).

إن ارتباط الإنتاجية بالرقابة اللصيقة لا يجد له دعم حقيقي في الدراسات الإدارية، ما يُمكن تأكيده أنه بقدر ما تُشجّع الأنماطُ الإدارية عقليةَ التابع بقدر ما يكون التحوّل نحو الرقابة الذاتية أصعب وأكثر كلفة.

هل تؤدي الكوارث الى الثورة على الواقع؟ ربما، وهناك دلائل تاريخية على ذلك. الأهم أن الكوارث لها وقع السحر في الأنماط السلوكية للأفراد والجماعات والمؤسسات.

إعتقد العِلمُ طويلاً بأن الناس غير صحّيين بسبب نقص المعرفة. كان هناك شعورٌ بأن “حقن” الناس بالحقائق سيكون كافياً لتشجيعهم على العيش حياة أكثر صحة. وهذا هو المصدر المعرفي لبرامج التوعية التي تُنفَق عليها المليارات عبر العالم.

علماءُ النفس طوّروا وجهات نظر أكثر تعقيداً لشرح ما يؤثر في سلوك الفرد. تُشير “نظرية السلوك المُخطَّط” إلى أن محاولات التأثير في السلوك تحتاج إلى استهداف ثلاثة أشياء: أولاً، معرفة الفرد ومُعتقداته حول هذا السلوك – كما هو الحال في نموذج “الحقن”. ثانياً، المعايير الإجتماعية أي جعل السلوكيات التغييرية تبدو الشيء الطبيعي الذي يجب القيام به، وجَعل الناس يشعرون بأن كل الذين من حولهم يتصرفون بالطريقة نفسها. ثالثاً، القدرة على إنتاج  خطة شخصية للتغيير، والمساعدة في قوة الإرادة والدعم والاستراتيجيات على التعامل مع الرغبة الشديدة المُعاكِسة.

هذه المُقاربة تدعمها ايضاً أبحاث وقف التدخين حيث يحدد نموذج “مراحل التغيير” خمسة مستويات متوسطة بين التدخين ووقفه: ما قبل التأمّل (لم تفكر حتى في التوقف)، التأمّل (تعتقد أنه سيكون فكرة جيدة على الأرجح)، الإجراء (التخلّص من الحزمة الأخيرة الخاصة بك من السجائر)، والصيانة (تحارب الرغبة الشديدة ولا تُدخّن مرة أخرى)، والإنتكاس (أنت تستسلم ولديك سيجارة أخرى).

نحن نبدأ هنا، وبحكم القوة القاهرة للوباء، من النقطة الثانية (نماذج علم النفس)، أو النقطة الثالثة (مقاربة وقف التدخين): المعايير الإجتماعية أو القرار الذاتي اللذان يدعمان اليوم بقوة التغيير الثوري في بيئة العمل. الخطر الآن هو كيف ستتعامل المؤسسات مع الرغبة الشديدة المُعاكسة أو خطر الإنتكاس في حال زوال خطر الوباء.

لا يجب أن يبقى الوباء طويلاً، لكن علينا ان نعتذر لضرورة القول أن الوباء يجب ان يبقى مدة كافية لتبيان كفاءة النظام الوليد من رحم الوباء.

إن ما تُتيحه الأنماط الجديدة للعمل سوف تجعل اقتصادنا مع الوقت أكثر إنتاجية وأكثر تنافسية لأنه سيُصبح أقل كلفة وأقل تلويثاً للبيئة وأكثر احتراماً للحرية الفردية (رغم اننا سنواجه مشكلة السلوكيات غير المتأقلمة). الأهم هو كَمّ القطاعات الجديدة وفرص العمل الذي سيُولّده هذا النمط.

 

  • البروفسور بيار الخوري أكاديمي لبناني وباحث في الإقتصاد السياسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى