الفراغ القاتل في بلد “فالت” وغير محكوم؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

يُسارِعُ الناس في تونس إلى بيوتهم قبل أن يَنسَدِلَ الظلام على المدن والأرياف، خوفاً من الهجومات المُسلّحة المتكاثرة في هذه الأيام التي يقوم بها بعض الرعاع إلى حدّ بثّ الرعب في البلاد، وهي هجومات للحقيقة لم تقتصر على فترة الليل ولا على الشوارع الخلفية،  بل باتت تتجرّأ على الشوارع الرئيسة والطرقات العامة بين القرى والمدن التونسية، وأصبح المواطنون قلقين وخائفين لا على تليفوناتهم أو ساعاتهم أو على القليل من المال الذي يُقدَّر لهم أن يحملوه معهم لكل طارئ، هذا إذا أفلتت سلامتهم الجسدية من كل سوء، بل إن الأمر تطور إلى حدّ دخول المُهاجمين المُسلحين إلى محلات الحلاقة، فضلاً عن صعود وسائل النقل وترويع ركابها،  وسلبهم ما خفّ حمله وما غلا ثمنه، والأخطر هو الاختلاء ببعض السيدات المُحصّنات، أو الفتيات الأبكار، واغتصابهن في أماكن الخلاء التي تتم قيادتهن إليها، من دون أن يتجرّأن بالتصريح عن ذلك خوفا من “الفضيحة”.

ويتساءل الناس : لماذا أصبحنا نعيش هذا الكابوس؟ وكيف تحوّلت عاصمتنا الجميلة ومدننا الصغيرة والكبيرة إلى بؤر إجرام مٌبيت وبسابق إضمار؟

إن على علماء السوسيولوجيا، أن ينكبّوا على دراسة هذه الظواهر، التي اعتقدنا أنها طارئة، وأصبحنا لتكرارها اليومي هنا وهناك، نشعر بأنها باتت جزءاً من حياتنا اليومية، “ولا حد خير من حد” ، فكلنا مُعَرّضون لمثل هذه الجرائم، ومن أفلت اليوم لا يُمكن أن يطمئن إلى أنه سيفلت غدا أو بعد غد. ويقول لي تاجر مواد وآلات إليكترونية: إن الطلب تكاثر بصورة كبيرة، على التليفونات من صنف 50 ديناراً، التي لا يطمع بها المُسلّحون، وكفّت كثيرات من السيدات على حمل حقائب يدوية، أو أي شيء من الحلي، حتى المُزيَّفة ، بل وأكثر من ذلك نزعن الأقراط من آذانهن، ولم يعدن يلبسن ما غلى أو حتى قلّ ثمنه من المجوهرات، التي كلفتهن في بعض الأحيان ثروات طائلة، أو الفراء وحتى في الأعراس.

على أن لكل شخص أن يُدلي بدلوه لتفسير هذه الظاهرة، التي تعاظمت في الأشهر الأخيرة بعدما كانت محدودة.

ولنا تفسير قد يراه البعض صائباً، ويراه البعض الآخر خاطئاً. إننا نعيش في بلد غير محكوم، وليس الحكم، مظهراً لشرطة أو حرس بل اطمئنان في القلوب، وهو أمر لم يعد متوفراً في تونس وأسباب ذلك متعددة:

1/ مظاهر الفقر المُدقع السائد والذي لا تؤكده الإحصائيات والبيانات الرسمية وغير الرسمية فقط، بل مظاهر معاينة واضحة، تتمثل في هؤلاء الذين يُنبّشون في المزابل، والذين لم يعودوا يجدون ما يسترهم حتى في “الفريب”، الذي غلا ثمنه ككل شيء في البلاد. فاللحم لم يعد مادة في المتناول حتى لمَن كانوا يصفون أنفسهم بأنهم من الطبقة الوسطى، بعد أن تضاعف ثمنه مرتين في أقل من عشر سنين.

2/ غياب الوازع الأخلاقي، وحتى الديني رغم امتلاء الجوامع والمساجد بالمصلين، ناهيك وأن سرقة الأحذية باتت رياضة وطنية شديدة الإنتشار.

3/ الإحساس بغياب العقاب الرادع، بل والتراخي في محاسبة المذنبين، إذا حصل وسقطوا في الفخ.

كل ذلك يُنبئ بأمر خطير هو غياب الدولة، لا فقط بأجهزتها، ولكن أيضا بهيبتها وما تفرضه من احترام، ناهيك وأننا نعيش منذ شهر تموز (يوليو)، في فراغ مؤسساتي خطير. فالحكم هو حكم تصريف أعمال، بحكومة نصفها بوزراء نواب، لا يعرفون متى سيقع صرفهم فلا هم في العير ولا في النفير.

وحتى الإنتخابات لم تفرز أحداً يستطيع استلام الحكم، فكل حزب يقذف بجمرة الحكم للآخرين مهما كان موقعه في المجلس، وكل حزب بما لديه فرح، بما أن لا أحد منه استلم ” جمرة ” السلطة بكل تحدياتها، بعد مرور تسع سنوات من العبث، شاركت فيها طبقة سياسية، أقل همها مصلحة الوطن.

والحكم هو ثقة الناس في مستقبلهم، ومستقبل أبنائهم، وهو الذي يصنع الاستقرار، في وقت لو وجد فيه نصف التونسيين سبيلاً لمغادرة البلاد نهائيا لأقبلوا على ذلك بطيب خاطر بل بحماس تاركين أهل البلاء للبلاء.

وإزاء هذا الوضع المتردي والسيىء، نجد السلطة ملقاة على قارعة الطريق ولا أحد يريد أن يلتقطها كما قال لي بالأمس، الأستاذ الكبير الطاهر بوسمة، الذي خبر السلطة بمختلف أوجهها، وخبر المجتمع المدني. وحتى الوزير الأول المُعَين، لم يشعر بالتفاف من حوله بل مناورات، والشعور السائد اليوم بأنه، لو قدر له أن مرّ أمام البرلمان، ونال الثقة، واستلم الحكم من  شهور معدودة، بعد أن أدخل نفسه عن وعي أو غير وعي، من اليوم الأول في فخ يعتقد أنه أطبق عليه.

  • عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي تونسي مخضرم. كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية ومراسلاً لصحف ومجلات عربية عدة. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى