العلاقات الأميركية – الإيرانية: بين التحالف الاستراتيجي والتجاذب التكتيكي

بعد اغتيال قائد “فيلق القدس” الإيراني الجنرال قاسم سليماني في العراق بواسطة غارة أميركية مُسيّرة خشي العالم من تداعيات هذه العملية، وكثيرون من المُحلّلين والمراقبين اعتبروا أن “عملية الإغتيال وضعت الشرق الأوسط كلّه أمام المجهول”. ولكن الرد الإيراني كان محدوداً ومدروساً، حتى الآن، لكي لا ينفلت الوضع إلى ما لا تُحمَدُ عقباه. لماذا كانت هذه العملية وما هو مستقبل العلاقات الأميركية-الإيرانية، خصوصاً في عصر دونالد ترامب؟  

الجنرال قاسم سليماني: تداعيات إغتياله كانت محدودة ومدروسة إيرانياً

 

بقلم أسعد الخوري*

 لعل ذروة العاصفة السياسية والعسكرية في العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية وايران، كانت في اغتيال قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني ونائب رئيس ميليشيات “الحشد الشعبي” في العراق أبو مهدي المهندس لحظة خروجهما مع مرافقيهما بسيارتين مصفحتين من مطار بغداد الدولي.

كان العالم بأسره يخشى تداعيات ما حصل بعد منتصف ليل الثالث من كانون الثاني (يناير) 2020… كثيرون من المُحلّلين والمراقبين اعتبروا أن “عملية الإغتيال وضعت الشرق الأوسط كلّه أمام المجهول”! كانت الخشية من أعمال ثأر إيرانية عنيفة كذلك من “أذرع إيران” في المنطقة التي توعّدت فصائلها، الأميركيين بالإنتقام الشديد وبطرد قواتها العسكرية من المنطقة كلها.

لكن ردّة الفعل على أعنف عملٍ عسكري أميركي ضد ايران، لم تكن في مستوى “الحدث الكبير والخطير” كما روّجت وسائل إعلام إيرانية أو موالية للنظام الايراني. لم يتخطَ الفعل قصفًا إيرانيًا مُركّزًا لقاعدتين عسكريتين أميركيتين في العراق، إحداهما “عين الأسد” والثانية قرب أربيل، من مجموعة عدد من القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في أماكن استراتيجية في العراق.

لماذا كان المراقبون يتخوّفون من أعمال إيرانية إنتقامية قوية وخطيرة من شأنها تعريض الوجود العسكري الأميركي في العراق، وضد قواعد عسكرية أميركية أخرى تتواجد في عدد من الأقطار العربية، للقصف والتدمير بما يؤدي الى مقتل عسكريين أميركيين… تمهيدًا لإخراج القوات الأميركية من المنطقة، حسب التهديد الإيراني؟!

العراق بين أميركا وايران

تاريخيًا، كيف تطوّرت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، خصوصاً في مرحلة ما بعد سقوط النظام العراقي بزعامة صدام حسين في العام 2003، عندما قدّمت الولايات المتحدة العراق الى إيران على “طبقٍ من فضة”؟

الخبير السياسي والاستراتيجي رفيق أبي يونس يضع هذه العلاقات في إطار مسارين:

1 – اللقاء الموضوعي الاستراتيجي لمصالح البلدين؛

2 – توالي التجاذبات، لكن تحت سقف المصالح الموضوعية.

وهو يُلاحظ أن نقطة الإنطلاق في مرحلة ما بعد الشاه، بين واشنطن وطهران، هي الحرب الإيرانية على العراق التي بلغت مرتبة التنسيق العسكري الميداني بين الايرانيين والأميركيين، وبلغت قبل ذلك حدود التنسيق السياسي وترتيب العلاقات بين القوى المعارضة للحكم الوطني في العراق يومذاك. ولم تجد إسرائيل، بدعمٍ أميركي، غضاضة في نقل السلاح الى إيران عندما بدت بحاجة ماسّة الى مثل هذا السلاح لاستكمال الحرب ضد العراق.

إن هذا اللقاء الموضوعي بين واشنطن ودولة إقليمية كإيران ذهب بعيدًا في إنتاج مجموعة من الحقائق في المنطقة:

الحقيقة الأولى، هي تدمير الدولة العراقية الوطنية وكان تعبيرها الأقوى حلّ الجيش العراقي بقرارٍ من الحاكم الأميركي للعراق يومذاك (بول برايمر) المُعيّن من قِبَل الرئيس الأميركي جورج بوش الابن الذي اجتاح العراق ودمّر البنى التحتية لهذا البلد، بعد حصار أميركي استمر أكثر من 13 عامًا.

الحقيقة الثانية، أنّه لم يقتصر الدور الأميركي على حلّ الجيش العراقي بل ترافق ذلك مع إنتاج إيران ميليشياتٍ موالية لها داخل العراق. هذا التكامل بين الدورين بلغ حدود تجاوز إيران لهذا المخطط الخطير حدود العراق، وصولاً الى سوريا ولبنان… واليمن.

تحالف وتجاذب

في كل الأحوال، يُضيف أبو يونس، انه لا يجوز مُقاربة التجاذب الإيراني – الأميركي الآن، والذي بلغ قمة التسديد من قِبَل أميركا في اغتيال قاسم سليماني وصحبه، إذ لا يمكن فهم هذا التجاذب بمعزل عن نظرية ثابتة في العلاقات الأميركية – الايرانية هي نظرية التحالف الاستراتيجي والتجاذب التكتيكي.

لذلك فإن إدارة الرئيس السابق باراك أوباما ذهبت بعيدًا في سياسة “حسن النيّة” تجاه إيران ودورها في المنطقة، فجاء الإتفاق النووي حماية لهذا الدور، في الوقت الذي افترض آخرون، وفي طليعتهم الدول العربية، أن هذا الإتفاق النووي سيُشكّل “ضابط إيقاع” “لدولة متفلّتة” خارج حدود العلاقات الدولية، بينما ظهر في حقيقة الأمر، أن العقل الفارسي الذي يعتمد أيضًا العقيدة المذهبية، استغل هذا الإتفاق لتغطية مُخطّط مشبوه وليكمل مشوار وضع اليد على دولٍ عديدة في المنطقة، راسمًا “هلالاً إيرانيًا” يمتد من البصرة الى سوريا ولبنان… وصولاً الى غزّة واليمن.

إدارة ترامب

 ماذا تغيّر مع إدارة الرئيس دونالد ترامب؟

في تحليل للخبير السياسي رفيق أبي يونس، ان ما تغيّر مع إدارة ترامب هي قناعة الولايات المتحدة الأميركية لوحدة “التقدير” المُشتَرَكة بين الرئاسة الأميركية ووزارتي الدفاع (البنتاغون) والخارجية، بأن إيران تجاوزت حدود “ما لها، وما لنا، وما لإسرائيل”. وقد وصلت حدّة التجاذب الأميركي – الإيراني حدود الضغط القائم لسببين جوهريين:

الأول، لأن العراق دولة استراتيجية مهمّة جدًا لأميركا، وهي مهمة لموقعها الاستراتيجي كمفتاح لمنطقة الشرق الأوسط، كما هي مهمة لثرواتها النفطية. إضافة الى أن إدارة الرئيس ترامب استطاعت أن تنتزع إقرارًا روسيًا، ومن الرئيس فلاديمير بوتين شخصيًا، “بالمصلحة” الأميركية في العراق، كما انتزع بوتين قرارًا أميركيًا بالأهمية الاستراتيجية والمصلحية لروسيا في سوريا.

الثاني، هو أن التجاوز الإيراني خَرقٌ للسقوف المُتَعارَف عليها في التفاهمات الدولية، وهو بلغ مدى بعيدًا في تهديد المصالح الأميركية المُتّفق عليها مع الإيرانيين والروس في العراق وسوريا بشكل خاص وأساسي. لذلك ارتفعت منصة لبنان من خلال “حزب الله” في هذا الصراع الجديد، الذي لم يعد مُمكنًا ضبطه وِفْقَ القواعد السياسية والعسكرية القديمة.

العالم بأسره اليوم أمام هذا المشهد الجديد، حيث تجري مساع علنية وجهود مُكثّفة، يُشارك فيها أكثر من طرف عربي وإقليمي ودولي لإنتاج قواعد جديدة للعلاقات الأميركية – الإيرانية نظرًا إلى حجم الأضرار التي يُمكن أن يتعرّض لها جميع الأطراف، بصرف النظر عن أن الغَلَبة في أية مواجهة عسكرية وسياسية بين إيران وأميركا هي محسومة لصالح الثانية، بصرف النظر عن الضجيج والتعبئة الإيرانية.

ويرى أبي يونس أن “التفاهمات” التي يُمكن أن تؤدي إلى تسوية جديدة تقبل بها الولايات المتحدة والغرب، هي التي تُعطي إيران الحقّ بأن تكون دولة إقليمية مؤثّرة سياسيًا في محيطها، لكنها منزوعة التأثير الأمني والعسكري في دول جوارها، وبالتأكيد محرومة من الوصول الى سلاح نووي.

الصفقة

لكن هذه “الصفقة” يجب أن تأخذ بعين الإعتبار، ما هو مُستَجِدّ في الداخل الايراني على مستوى قيام ونمو تيار معارض جديد، جاد وجدّي. وما هو حاصل أيضًا داخل العراق وبالاتجاه عينه، لأن حركة الشارع في العراق قد لا تستطيع أن تُنتِجَ معادلة جديدة الآن، خارج استقطاب قوى العملية السياسية الأميركية – الإيرانية، لكنها بالتأكيد سوف تُشكّل الأرضية لبناء تيار وطني عراقي ينطلق من مُعادلة سياسية تؤكد أن لا مقاومة في العراق، من دون أن تكون مُلتزمة ومُتّصلة بمقاومة الدور الإيراني على مساحة العراق كله. وما حركات الإحتجاج والإنتفاضة الشعبية في المناطق الشيعية من العراق (البصرة، العمارة، كربلاء، النجف، وسواها إضافة الى بغداد) إلاّ دليل واضح على حجم الرفض العراقي من مختلف المذاهب والطوائف للأطماع الإيرانية الواضحة في أرض العراق، والتي تتجلى باستخدام بلاد الرافدين استراتيجيًا، ونهب الثروات النفطية لهذا البلد العربي الواسع الثراء والذي أفقرته أطماع أميركا وإيران وصنائعهما داخل العراق نفسه.

يؤكد الخبير السياسي رفيق أبي يونس في الختام أنّ ما يمكن التوقف عنده في مشهد اللحظة الراهنة، أن الإيرانيين عرضوا قبل عملية اغتيال قاسم سليماني، على الأميركيين، وبهدف احتواء الإنتفاضة الشعبية العراقية، عبر الوساطة العُمانية، إعادة التفاهم بين أميركا وايران على تفاصيل تتعلق بالملف العراقي، على أن تكون قاعدة التفاهم ما كان متفقًا عليه بين واشنطن وطهران أبّان الحرب على العراق… وبعدها.

تؤكد المعلومات بأن الأميركيين يرفضون اتفاقًا جزئيًا، في ملفٍ أصبح الدور الايراني فيه مُصابًا بشظايا سياسية وعسكرية كثيرة، وإن ما ترغب به أميركا هو تفاهم عام. وإذا كان لا بدّ من تقديم ملفٍ على آخر، فإن ملفي السلاح النووي، و”حزب الله” في لبنان، لهما الأولوية المُطلَقة في الصراع المكشوف والمفتوح بين واشنطن وطهران.

 

  • أسعد الخوري هو كاتب وصحافي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى