الإنتصار الأجوَف لبشار الأسد

فيما يدّعي الرئيس السوري بشار الأسد بأنه انتصر في الحرب الأهلية الطويلة في سوريا، فإن خضوعه للرعاة الأجانب والمستفيدين المحليين يجعل نظامه أضعف من أي وقت مضى.

 

الرئيس بشار الإسد: الإنتصار الأجوف!

 

بقلم لينا الخطيب*

عانى نظام الرئيس بشار الأسد حتى الآن ما يقرب من تسع سنوات من الصراع الأهلي. والسؤال بالنسبة إلى أولئك الذين استثمروا في مستقبل سوريا لم يعد ما إذا كان النظام سيصمد ويبقى، ولكن كيف سيسعى إلى تعزيز سلطته قبل إنتهاء الحرب التي لا تزال تُدمّر البلاد. ربما كان الأسد دخل الحرب مُعتَقِداً أن نظامه يُمكن أن يحتفظ بالسلطة التي كان يتمتع بها قبل العام 2011، لكن من المرجح أن تكون أهدافه اليوم أكثر تواضعاً.

ومع ذلك، فإن تقييدات هؤلاء المستثمرين لا تجعل أولويات الأسد الحالية أقل خطورة. قد تكون أكثر من ذلك. من أجل الإظهار للعالم أنه لا يزال يُسيطر على الوضع وينبغي تطبيع العلاقات مع نظامه، فإن الأسد سيسعى بلا شك إلى العمل على استعادة جميع أراضي البلد السابقة. ومن أجل الحفاظ على نظامه داخلياً، فهو لن يَتقيّد بتلبية احتياجات الشعب السوري بل سيعمل كل ما في وسعه للبقاء في السلطة، وهذا الأمر لا يُمكِنه تحقيقه إلّا من خلال الحفاظ على شبكة المحسوبية التي أصبحت شريان الحياة للنظام السوري طوال النزاع.

لكن إذا أدرك الأسد هذه الأهداف البسيطة – البقاء واستعادة الأراضي السورية – فسيكون انتصاره باهظ الثمن. سوف يجلس على رأس دولة جوفاء ذات مؤسسات ضعيفة، مُحاصَراً بمستغلّي الحرب، ويخضع لقوى خارجية.

عميلٌ وليس شريكاً

لقد بدأ الأسد فعلياً في تحقيق هدفه المُتمثّل في استعادة السيطرة الإقليمية على سوريا. المنطقة الرئيسة في القضية هي الشمال. المتمردون الإسلاميون يسيطرون على الشمال الغربي، حيث قاوموا تقدّم الأسد. في الشمال الشرقي، كانت “قوات سوريا الديموقراطية”، التي يُهيمن عليها الأكراد، هزمت تنظيم “الدولة الإسلامية” المعروف ب”داعش”، ودفعته إلى خارج المنطقة بحلول العام 2018، وأنشأت نوعاً من الحكم الذاتي الذي دعمته القوات الأميركية. في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، قام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب معظم القوات واجتاحت تركيا المنطقة. توصّلت “قوات سوريا الديموقراطية” إلى اتفاق مع الأسد للسماح للجيش السوري بدخول الشمال الشرقي ومواجهة الهجوم التركي. اليوم، تُدير القوات الكردية المنطقة بحضور الجيش السوري.

حالياً، يعمل النظام السوري مع روسيا لإعادة الشمال بالكامل لسيطرة دمشق. لذا، تتوسط موسكو لإجراء صفقة مع أنقرة تسحب بموجبها الأخيرة قواتها من سوريا مقابل ضمانات بأن “قوات سوريا الديموقراطية”، التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية، ستبقى بعيدة من حدودها. كجزء من هذا الجهد، يُناقش النظام التعاون العسكري والسياسي مع القوات الكردية، على الرغم من أن الأسد من المرجح أن يحرم الأكراد من الإستقلال الذاتي الذي كانوا يأملون أن يحصلوا عليه كمكافأة على دورهم في مواجهة “داعش”.

إذا تمكّن النظام من تأمين المنطقة المُتنازَع عليها، فسوف يدّعي أنه استعاد سلطته على سوريا ويدعو بالتالي إلى تطبيع علاقاته مع العالم. ومن شأن هذا التطبيع أن يمنح نظام الأسد شرعية دولية ويُمهّد الطريق لرفع العقوبات، مما سيسمح لأموال إعادة الإعمار بالتدفق إلى البلاد. ولكن على الرغم من أن الأسد قد يرفع علامة النصر، فإنه سيفعل ذلك كلاعب صغير في قصة انتصاره. من خلال المتاعب السورية، إستطاعت روسيا أن تصبح الممثل الخارجي الأكثر نفوذاً في الحرب، كما ضمنت إيران نفوذها الدائم في بلاد الشام. سيجد نظام الأسد نفسه شريكاً أقل من عميل، ويعتمد بقاؤه على دعم هذين المؤيّدَين الخارجيَين.

لقد منحت سوريا بالفعل امتيازات اقتصادية وأمنية لإيران وروسيا، مثل العقود الحكومية في قطاع النفط والسيطرة على القواعد البحرية، مقابل مساعدتهما في النزاع. قامت موسكو، على وجه الخصوص، بتوسيع مصالحها في سوريا من طريق الضغط على النظام لمنح عقود إقتصادية للشركات الروسية ووضع الضباط المُوَالين للروس في مناصب عليا في الجيش السوري. يبدو أن الولايات المتحدة لا تعتبر السيطرة الروسية على سوريا تهديداً مباشراً للمصالح الأميركية، لذلك لا توجد ضوابط خارجية لمواجهة قدرة روسيا على فرض نفسها على نظام الأسد. بعد أن استعاد سلطته من خلال تدخل روسي ثقيل، سيحكم الأسد سوريا ليس كدولة ذات سيادة ولكن كدولة تعتمد قدرتها على البقاء على روسيا.

ربما لم تكن مثل هذه اللعبة النهائية هي نية الأسد الأصلية، لكن سيتعيّن عليه التعايش معها، لأن سيطرته على البلاد تحوّلت إلى عظام عارية. المناطق التي استعادها النظام أخيراً في الشمال الشرقي، مثل القامشلي، لا تزال تحت السيطرة الفعلية للميليشيات الكردية، التي تُدير نقاط التفتيش، لكن تحت ضغط من الدوريات الروسية، ترفع العلم السوري لإعطاء الانطباع بأن الجيش السوري هو المسؤول. حتى أن بعض الجنود السوريين الذين تم تجنيدهم من دون تدريب كافٍ في المنطقة يعملون في الزراعة حتى يحصلوا على لقمة عيشهم.

دولة هشّة

الجهات الفاعلة الخارجية ليست هي الأطراف الوحيدة المُهتمّة التي يُدين لها الأسد بحياته السياسية. خلال الصراع، كان على النظام الإعتماد على شبكة كبيرة من الجهات الفاعلة والمُساعِدة غير الحكومية، بعضها مسلح وبعضها مدني، للتحايل على العقوبات الدولية في المعاملات التجارية، والمساعدة في المعركة، وأداء وظائف الدولة، مثل تقديم الخدمات في الأمكنة التي ليس للنظام فيها وجود أو قدرات. لقد استفادت هذه الجهات الفاعلة من النزاع الذي طال أمده، وأصبحت أكثر طموحاً وقوة من أي وقت مضى، بحيث قلبت الآن الطاولة وتغيرت الأحوال وأصبح النظام يعتمد عليها من أجل البقاء. لقد أصبح هؤلاء المستفيدون هم السلطات الفعلية التي تؤدي دور مؤسسات الدولة، ولكن بثمن باهظ بشكل متزايد.

تسرّب المستفيدون إلى أجهزة أمن الأسد على جميع المستويات. أصبحت الميليشيات التي دعمت أجهزة أمن الدولة خلال النزاع مستقلة بشكل متزايد، وسعت في المقام الأول إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية وتوسيع قوتها ونفوذها. في بعض الحالات، تحوّلت هذه الميليشيات إلى عصابات مسلحة تُخيف المدنيين في المناطق الموالية. ونتيجة لذلك، لم يتمكن النظام من تلبية احتياجات حتى الموالين له أو كبح جماح بعض الميليشيات المزعومة الموالية للنظام. في حالات عدة، كما هو الحال في مدينة الأسد القرداحة، لم تتمكن قوات النظام من الدخول إلى المناطق التي تسيطر عليها العصابات المسلحة. وهذه العصابات لم تُسلّم أسلحتها الثقيلة إلا بشرط أن يتجاهل النظام أنشطتها الإقتصادية غير المشروعة. حتى المؤسسات الأمنية، بما فيها الجيش السوري، أصبحت فاسدة، حيث تعمل الفروع المحلية للأجهزة الأمنية إلى تحقيق مصالحها الخاصة بدلاً من مصالح الدولة.

لا يُمكن للنظام السوري أن يُشبِع جشع هؤلاء المُستَغلّين من خزائنه الحالية. لكن لا يُمكنه أن يتحمّل جوعهم لأن قوّته تعتمد جزئياً على دعمهم. لهذا السبب، فإن الأسد يشعر باليأس بالنسبة إلى الحصول على أموال لإعادة الإعمار يمكنه بعد ذلك تحويلها إلى الشبكات التي يرعاها في سوريا. لمنع هذه النتيجة، يجب أن يكون أي دعم خارجي يتم تقديمه للمشاريع المرنة مشروطاً لضمان توزيع الأموال على الشعب السوري بشكل عام.

قد يحاول نظامٌ مختلف دعم السلطة في فترة ما بعد الصراع بجذب المواطنين من طريق الإهتمام باحتياجاتهم. لقد فعل نظام الأسد عكس ذلك، حيث عاقب من يعتبرهم غير مُوالين بما فيه الكفاية من خلال حرمانهم من الخدمات الأساسية والأمن والحقوق. في العام 2018، فرضت سوريا القانون رقم 10، الذي يُجرّد الأشخاص من حقوق الملكية ما لم يُبلِّغوا عن إثبات الملكية للسلطات المحلية شخصياً. يتم تطبيق القانون بشكل أساسي في المدن التي تم الإستيلاء عليها من الجماعات المتمردة، حيث يتعرّض الأشخاص الذين يُبلّغون عن ممتلكاتهم لاستجواب يُمهّد الطريق لإلقاء القبض عليهم. تستفيد شبكات المحسوبية من مثل هذه التدابير — على سبيل المثال، من طريق التماس الرشاوى للإفراج عن المُعتَقَلين.

من خلال إسكات المُنشَقّين وترسيخ قبضته الإقليمية على سوريا، يسعى الأسد إلى نشر الإنطباع بأن سوريا عادت إلى الوضع الذي كان سائداً قبل العام 2011. لكن نظامه مبني على دولة وهمية، والقوة القليلة التي يتمتع بها هي في يد رعاته الخارجيين. ينبغي على الدول الغربية عدم تطبيع العلاقات مع سوريا على أساس أن الأسد هو الخيار الوحيد المتاح. يجب عليها بدلاً من ذلك السعي إلى فهم سوريا من القاعدة إلى القمة، حتى تتمكن من تطبيق النفوذ على التشققات في النظام لضمان عدم استخدام أي برامج دعم لسوريا من قبل النظام لإطعام مُستَغلّيه المحليين ورعاته الخارجيين. نهاية لعبة الأسد في سوريا تجعله يجلس على عرش هشّ قائمٍ على أساسٍ غير مستقر مؤلف من ألف قطعة غير متوازنة.

  • الدكتورة لينا الخطيب تقود برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مركز “تشاتام هاوس”. وتُركز أبحاثها على العلاقات الدولية في الشرق الأوسط والجماعات الإسلامية والأمن والتحوّلات السياسية والسياسة الخارجية، مع إيلاء اهتمام خاص للنزاع السوري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى