هذا هو الوقت لبداية جديدة في لبنان

بقلم كابي طبراني

من طرابلس إلى صور والنبطية، من بيروت إلى بعلبك، يشهد لبنان لحظة تاريخية حيث توحّد الناس من جميع الخلفيات الإجتماعية والأديان والطوائف للتنديد بالفساد وعدم الكفاءة السياسية وحالة الإقتصاد المؤسفة.

عقودٌ من الفساد وسوء الإدارة الجنائية من قبل النُخب الحاكمة في لبنان – الزمرة نفسها التي حكمت البلاد منذ استقلالها في العام 1943 – أدّت أخيراً إلى انهيار إقتصادي وانفجارٍ إجتماعي.

إنتفض الشعب اللبناني مرات عدة عبر تاريخه الحديث للمطالبة بالتغيير، وأبرزها كانت إنتفاضة العام 2005 بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، التي أجبرت سوريا على سحب قواتها من لبنان. لقد أعقبت “ثورة الأرز” في العام 2005، كما عرفها العالم، بعد حوالى عشر سنين “ثورة القمامة”، عندما خرج الآلاف من المواطنين إلى الشوارع للإحتجاج على إخفاق الحكومة المستمر في جمع جبال النفايات، في المقام الأول في شوارع بيروت.

لكن عندما ثار العرب خلال “الربيع العربي”، تحوّل اللبنانيون إلى مُتفرّجين. ليس لأنهم لم يعانوا من المشاكل الإجتماعية والإقتصادية عينها، ولكن لأنهم كانوا خائفين من إصلاح نظامهم السياسي الهشّ في وقت كان خطرٌ كبير يُحدِق بالمنطقة فيما كان تنظيم “داعش” يجتاح سوريا والعراق. لقد إقتنعوا بالإصلاح بدلاً من الثورة.

إلّا أن تلك الإصلاحات، التي وعد بها السياسيون مراراً وتكراراً، لم تأتِ قط. لذلك خرج الناس في 17 تشرين (أكتوبر) الجاري، ولأول مرة في تاريخ لبنان، من جميع الطوائف ومناحي الحياة إلى الشوارع مُطالبين بتغيير سياسي أساسي وإجراء مُساءلة. على شاشات التلفزيونات الوطنية ومن دون خوف، سَخِروا من زعماء طوائفهم، بمَن فيهم الرؤساء ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري، والأمين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصر الله، وألقوا باللوم عليهم للمصائب التي حلّت بهم. لم يحدث هذا من قبل.

وعلى الرغم من أن المظاهرات إندلعت بعد أن أعلن مجلس الوزراء فرض ضريبة جديدة على تطبيق المراسلة الشهير ال”واتساب” (التي أُلغيت في ما بعد)، فإن الأمر كان أبعد من ذلك. لم تكن الإنتفاضة بسبب الضريبة على تطبيق مُراسَلة ولو كانت القشّة التي قصمت ظهر البعير، لقد كانت بسبب عدم وصول إمدادات المياه الرسمية لأقل من نصف السكان في لبنان، ولأن أقلية صغيرة تحصل على تغطية كاملة بالكهرباء، وأكثر من ثلث شباب البلاد عاطلون من العمل، وغالبيتهم تفتقر إلى الرعاية الصحية الكافية والتعليم العام اللائق. بالإضافة إلى ذلك، فإن سيادة القانون غير موجودة، وجرائم الأثرياء واالذين يتمتعون بعلاقات سياسية تمرّ من دون عقاب. كما أن الليرة اللبنانية في حالة إنحدار حر، ورأس المال يغادر البلاد بشكل أسرع من القطار الأسرع من الصوت. واللاجئون السوريون باتوا يُشكّلون ما يقرب من ربع سكان لبنان – وهو أعلى رقم للفرد في العالم – وهذا لا يحسب حتى اللاجئين الفلسطينيين المنتشرين في المخيمات في جميع أنحاء البلاد، والذين يشكلون حوالي عشرة في المئة من سكان لبنان.

إن فكرة النخبة الحاكمة اللبنانية عن الإنتعاش الاقتصادي تقوم على فرض المزيد من الضرائب على الفقراء، والإقتراض أكثر، والبقاء في السلطة. لقد أجبرت التعبئة الشعبية والغضب، اللذين يبدو أنهما يتزايدان كل دقيقة، الحكومة على الموافقة على موازنة 2020 بعجز مالي (دفتري) يصل فقط إلى نحو 400 مليون دولار وإعلان بعض التدابير “التصحيحية”، لكن يبدو أن رئيسها مع باقي أفرادها غير مُهتمّين بالإستقالة. على الأقل هذا ما قاله وزير الخارجية جبران باسيل في مؤتمره الصحافي: إن الخيار هو بين الصيغة الحاكمة الحالية التي تقوم على الإجماع السياسي، أو الفوضى الكاملة…

لا تُصدّقوه ، إنه خيارٌ خاطئ وادّعاء غير صحيح.

من غير الواضح حجم القوة السياسية التي يُمكن للمتظاهرين توليدها لتحقيق مطالبهم، والتي تركز على أربعة أشياء: إستقالة الحكومة، وإلغاء الضرائب منذ العام 2017، وإعادة الأموال المنهوبة، والإنتخابات الوطنية المبكرة. وعلى الرغم من اتساع الإحتجاجات، فهناك أولئك (وهم كثيرون) الذين سيتوجهون أيضاً إلى الشوارع لحماية أمراء الحرب ويصطدمون في النهاية مع المتظاهرين المُسالمين. لقد حدث هذا باستمرار عبر التاريخ: في خضم الإنتفاضة، هناك دائماً أولئك الذين يرغبون في قلب الوضع الراهن وأولئك الذين يرغبون في الحفاظ عليه. في لبنان، ميزان القوى هو في صالح الفريق الأخير لأنه يمتلك السلاح ويسيطر على الدولة.

ومع ذلك، لا يُمكن لهذه المجموعة نفسها أن تعيش من دون دعمٍ خارجي. يُمكن لإيران إرسال المزيد من الأسلحة إلى حليفها “حزب الله”، لكن ذلك لن يُلغي بشكل سحري الدين العام الفلكي للبنان. يُمكن لروسيا أن تَعِد باستثمارات، لكن تلك الإستثمارات لا يُمكن أن تُضاهي ما يمكن أن تقدّمه الولايات المتحدة وفرنسا والإتحاد الأوروبي في ما يتعلق بالحماية الديبلوماسية والدعم المالي. لقد أوضحت دول الخليج العربية الغنية أنها ليست لديها مصلحة في إنقاذ لبنان، لأنها تعتبره دولة باتت تقع في الفضاء الإيراني.

لذلك، يتعلق الأمر حقاً بما يقرر الأميركيون والفرنسيون والإتحاد الأوروبي فعله: إما إنقاذ النخب الطائفية في لبنان من خلال توفير حزمة إقتصادية دولية تمنع الإنهيار التام، أو الوقوف إلى جانب المُحتجّين. الخيار الأول تم اختباره مرارًا وتكرارًا على مدى عقود ولم يجلب سوى الفشل السياسي والكارثة الإقتصادية.

هذا هو الوقت لبداية جديدة في لبنان. إلى القادة في واشنطن وباريس وبروكسل، أوقفوا الدعم لهذه الطبقة السياسية الفاسدة وغير المؤهّلة، وادعموا تشكيل حكومة طوارئ من التكنوقراط مع جدول زمني واضح وتفويض، وإرسال رسالة واضحة إلى القوات المسلحة اللبنانية بعدم اتخاذ إجراءات صارمة ضد النشاط السلمي والسماح للبنانيين الأحرار المستقلين على الأقل الحصول على فرصة في الحكم. فلا يُمكن أن يفعلوا أسوأ مما فعلته النخب الحاكمة الفاسدة؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى