ثورة “الزراعة الدقيقة” “تُثوِّر” عالم المزارعين

فيما يزداد عدد السكان في العالم، الذي تتوقع الأمم المتحدة أن يبلغ 9.5 مليارات في العام 2050، حيث سترتفع معه الحاجة إلى كميات أكثر من المواد الغذائية لتلبية طلبات الأفواه الجائعة، يعمل أهل التكنولوجيا على تطوير القطاع الزراعي لتلبية المتطلبات والإحتياجات الغذائية الدولية في القرن الواحد والعشرين. من نتائج هذه الجهود كانت “الزراعة الدقيقة” التي تعتمد على التكنولوجيا والأقمار الإصطناعية ونظام التموضع العالمي أو “النظام العالمي لتحديد المواقع” (GPS) وأنظمة المعلومات الجغرافية لفهم المتغيرات المختلفة المتعلقة بالعملية الزراعية، مثل تحديد كميات الري المناسبة، والأسمدة، والتنبؤ بفترات الحصاد وكمياته.

حصادات زراعية: التكنولوجيا ستطورها
حصادات زراعية: التكنولوجيا ستطورها

واشنطن – محمد زين الدين

منذ آلاف السنين، بدأت الزراعة بشكل بارز كنشاط في موقع معيَّن. كان المزارعون الأوائل من البساتنة والجنائنيين الذين يرعون النباتات الفردية يسعون إلى إيجاد مناخات ومساحات من التربة التي تلائم تلك النباتات. ولكن فيما إكتسب المزارعون المعرفة العلمية والخبرة التقنية، عمدوا إلى توسيع أراضيهم، مستخدمين نهجاً موحَّداً — حرث التربة، ونشر الروث الحيواني كسماد، والتناوب والتغيير في المحاصيل من سنة إلى أخرى — لزيادة الغلّة. على مر السنين، طوّروا طرقاً أفضل لإعداد التربة وحماية النباتات من الحشرات، كما حصلوا في نهاية المطاف على آلات للحدّ من العمالة اللازمة. إبتداءً من القرن التاسع عشر، إخترع العلماء المبيدات الكيميائية، وإستخدموا مبادئهم الجينية المُكتشَفة حديثاً لتحديد وإختيار نباتات أكثر إنتاجية. وعلى الرغم من أن هذه الأساليب زادت الإنتاجية الكلية إلى أقصى حدّ، فإنها قد أدّت إلى إنتاجية أقل مستوى في بعض المناطق داخل الحقول. مع ذلك، إرتفعت العائدات إلى مستويات لم يكن يتصورها أحد: بالنسبة إلى بعض المحاصيل، فقد زادت العائدات عشرة أضعاف من القرن التاسع عشر حتى الوقت الحاضر.
اليوم، مع ذلك، فقد بدأ إتجاه معكوس نحو ممارسات أكثر إتساقاً من أي وقت مضى، وذلك بفضل ما يعرف ب “الزراعة الدقيقة”. بإستفادتهم من تكنولوجيا المعلومات، يمكن للمزارعين الآن جمع بيانات دقيقة عن حقولهم وإستخدام هذه المعرفة لتخصيص كيفية زراعة كل قدم مربعة.
أحد التأثيرات هو في العوائد: إن الزراعة الدقيقة تسمح للمزارعين إستخراج أكبر قيمة ممكنة من كل البذور. وينبغي أن تساعد على إطعام سكان العالم الذين تتوقع الأمم المتحدة أن يصل عددهم إلى 9.6 مليارات بحلول العام 2050. و”الزراعة الدقيقة” تحمل أيضاً الوعد بالتقليل من الأثر البيئي للزراعة، لأنها تقلل من النفايات وتستخدم طاقة أقل. وآثارها تمتد إلى أكثر من إنتاج المحاصيل السنوية مثل القمح والذرة، مع القدرة على إحداث ثورة في الطريقة التي يراقب ويدير فيها البشر مزارع الكروم والبساتين والثروة الحيوانية والغابات. في يوم من الأيام، من المتوقع أن تسمح للمزارعين بإعتماد الروبوتات لتقييم وتسميد وري كل نبتة على حدة — وبالتالي القضاء على العمل الشاق الذي إتسمت به الزراعة منذ إختراعها.

فدّان بعد آخر

وضعت الحكومة الأميركية الأسس الأصلية للزراعة الدقيقة في العام 1983، عندما أعلنت عن إفتتاح “النظام العالمي لتحديد المواقع” (جي. بي أس) (Global Positioning System) (GPS)، وهو برنامج ملاحي يستند على الأقمار الإصطناعية الذي وضعه وطوّره الجيش الأميركي للإستخدام المدني. بعد فترة وجيزة، بدأ بعض الشركات تطوير ما يعرف ب”تكنولوجيا المعدّل المتغيِّر”، والتي تسمح للمزارعين إستخدام الأسمدة بنسب مختلفة في جميع أنحاء الحقل. بعد قياس ومسح (رسم الخرائط) مثل هذه الخصائص كمستوى الحموضة ومحتوى الفوسفور والبوتاسيوم، فإن المزارعين يطابقون كمية السماد التي يحتاجون إليها. بالنسبة إلى الجزء الاكبر، وحتى يومنا هذا، يتم إختبار الحقول يدوياً، حيث يجمع المزارعون أو المستخدمون الأفراد عيّنات من نقاط محدّدة سلفاً، ويقومون بتعبئتها في أكياس، وإرسالها إلى المختبر لتحليلها. عندها، يرسم مهندس زراعي خريطة مقابلة للأسمدة الموصى بها لكل منطقة تهدف إلى تحسين الإنتاج. بعد ذلك، يقوم ناشر أسمدة مرتبط ب”جي بي أس” (GPS) بتوزيع الكمية المعيَّنة من المواد المغذّية في المكان المحدد.
أكثر من 60 في المئة من تجار المدخلات أو المزودات الزراعية في الولايات المتحدة يقدّمون نوعاً من خدمات “تكنولوجيا المعدّل المتغيِّر”، ولكن بيانات من وزارة الزراعة الأميركية تشير إلى أنه على الرغم من سنوات طويلة من الدعم الحكومي والجهود التعليمية، فإن هناك أقل من 20 في المئة من مساحة الذرة تُدار بإستخدام هذه التكنولوجيا. في الوقت الحالي، يبدو أن العائق الرئيسي هو إقتصادي. ولأن فحص التربة اليدوي مكلف، يميل المزارعون والشركات الزراعية إلى إستخدام “تكنولوجيا المعدّل المتغير” لتوظيف إستراتيجيات أخذ عينات بشكل ضئيل. معظم المزارعين في أميركا، على سبيل المثال، يجمع عينة واحدة لكل فدانين ونصف؛ في البرازيل، إن الرقم هو في كثير من الأحيان عيِّنة واحدة فقط لكل 12 فداناً ونصف. ولكن المشكلة هي أن التربة يمكن في كثير من الأحيان أن تختلف إختلافا كبيراً داخل الفدان الواحد، ويتفق علماء الزراعة أن العديد من الاختبارات للفدان الواحد غالباً ما يتطلب إلتقاط الإختلافات. وبعبارة أخرى، نظراً إلى التكلفة العالية لجمع المعلومات عن التربة فإن المزارعين يتركون مكاسب الإنتاجية على الطاولة في بعض مناطق القطاع ويستخدمون الأسمدة بشكل كبير وغيرها من المدخلات والمزودات في مناطق أخرى.
بدأ الباحثون معالجة المشكلة، حيث طوّروا أجهزة إستشعار (إستكشاف) رخيصة يمكن أن تسمح للمزارعين زيادة كثافة أخذ عيناتهم الخاصة. على سبيل المثال، إن جهاز إستشعار حموضة جديداً يُغرق “إلكترود” في التربة كل بضعة أقدام لقراءة وتسجيل إحداثيات وتنسيقات “جي بي أس” (GPS)؛ أخذ عينات يدوياً بهذا الحجم سيكون مكلفاً للغاية. ومع ذلك، لم تصل بعد أجهزة الإستشعار هذه إلى معظم المزارع. بعضها لم يُثبت أنه موثوق بما فيه الكفاية، حيث ينكسر بعد إستخدامه على بضعة فدادين، في حين أن البعض الآخر ليس دقيقاً بما فيه الكفاية. ولكن العديد من المجموعات البحثية في جميع أنحاء العالم يعمل على تطوير أجهزة أكثر ثباتاً ووثوقاً منها.
إن أجهزة الإستشعار الأكثر عملية هي التي تبدو في لون النباتات لتحديد إحتياجاتها الغذائية. النباتات التي تتمتع بكمية قليلة جداً من النيتروجين، على سبيل المثال، تميل إلى التحوّل إلى اللون الأخضر الشاحب أو الأصفر، في حين أن تلك التي تتمتع بما يكفي من النيتروجين تظهر باللون الأخضر الداكن. وقد طوّر العديد من الشركات الأميركية والأوروبية أجهزة إستشعار تكشف عن الإخضرار، مولّدة قياسات يمكن إستخدامها لإنشاء مخطط يوصي بكميات مختلفة من النيتروجين ليتم تطبيقها في وقت لاحق. بدلاً من ذلك، يمكن للقياسات أن تكون مرتبطة مباشرة بقضيب النيتروجين لتغيير معدّل الطلب على التوزيع. قد يكون للجرّار جهاز إستشعار مثبتاً في الأمام وقضيب في الخلف. في الوقت الذي يصل القضيب إلى نقطة تعبرها أجهزة الإستشعار للتو، فإن نظام حلول حسابية يحوِّل القراءات إلى إعدادات تُظهر كمية الأسمدة الواجب تطبيقها. ولأن الأبحاث قد ركّزت في هذا المجال أساساً على الحبوب الصغيرة مثل القمح والشعير والجاودار والشوفان، فإن التكنولوجيا إقتصرت غالباً على أجزاء من الولايات المتحدة وأوروبا التي تنمو فيها تلك المحاصيل. وفقاً لمسح أجرته جامعة “بوردو” (Purdue) الأميركية في العام 2013، فإن سبعة في المئة فقط من تجار المدخلات والمزودات الزراعية يقدّمون أجهزة إستشعار نبات ملون. مع ذلك، نظراً إلى عدد الشركات المبتدئة في هذا المجال فمن الواضح أن العديد من المستثمرين يرون التكنولوجيا منجم ذهب محتملاً.

الحقول والعوائد

مكّن القرار الرسمي بالنسبة إلى إستخدام ال”جي بي أس” (GPS) من بروز ثورة تقنية أخرى: رصد الغلّة. يتم تجهيز معظم الحصادات في الولايات المتحدة وأوروبا بأجهزة إستشعار خاصة تقيس معدل تدفق الحبوب الآتية. يقوم نظام حلول حسابية محدد للمحصول بتحويل البيانات الناتجة إلى حجم أو وزن يشيع إستخدامه، مثل بوشل للفدان الواحد أو كيلوغرام للهكتار. ثم يتم تحويل هذه المعلومات إلى خرائط ملوَّنة تظهر التباين داخل الحقول.
وقد أصبحت هذه الخرائط عنصراً رئيسياً في المجلات الزراعية والمعارض التجارية، لسبب وجيه: أنها قدّمت إلى المزارعين رؤية لم يسبق لها مثيل بالنسبة إلى الآثار المترتبة عن تقنيات الإنتاج المختلفة، والظروف الجوية، وأنواع التربة. مثل هذه الخريطة يمكنها أن تساعد على وصول المزارع إلى أرقام عائدات لغرض التأمين أو برامج الحكومة، وقياس نتائج التجارب التي تختبر صفات المحاصيل المعدّلة وراثياً أو فعالية الممارسات والوسائل الزراعية المختلفة، وتكشف عن أجزاء من الحقل التي لا ترتقي إلى إمكاناتها. في شرق الولايات المتحدة، إستطاع المزارعون من خلال رصد العائد من إقناع الملّاك بأن خسائر المحاصيل ذات الصلة بالفيضانات لم تقتصر على غمور المياه تماماً لأجزاء من الحقل؛ فقد قدموا أيضاً حلقة حول تلك البقع. رداً على ذلك، قام المزارعون بتثبيت مزيد من أنظمة الصرف المغطاة تحت الأرض. في الأرجنتين، لاقت التكنولوجيا إقبالاً لأن معظم مديري المزارع الكبيرة هناك، على عكس نظرائهم الأميركيين، نادراً ما يستخدمون المركبات بأنفسهم (نتيجة للتاريخ الغريب لملكية الأراضي هناك). بالنسبة إليهم، إن خرائط العائد تعرض على الأرض نظرة ثاقبة للإنتاجية التي كان من الممكن أن لا يحصلوا عليها خلاف ذلك.
عندما يتعلّق الأمر بجودة البيانات، مع ذلك، فما زال أمام تقنيات رصد العائد طريقاً طويلاً لإجتيازه. في معظم الحالات، يجب على أنظمة الحلول الحسابية التي تحوّل البيانات عن التدفق إلى قياسات حجم أو وزن أن تحسب سنوياً كل محصول ومزرعة، والعديد من المزارعين لا يهتمون بالقيام بذلك. كما يمكن أن تتأثر البيانات في مدى سرعة تحرك الحصّادة والخصوصيات الأخرى. وعلى الرغم من أن الدراسات البحثية يمكنها تحليل البيانات المستمدّة من رصد العائد بشكل صارم، فإن المزارع والشركات التجارية الزراعية عادة تفتقر إلى المهارات الإحصائية اللازمة والبرمجيات. الخطوة التالية في رصد العائد للأعمال الزراعية تكمن في إعتماد الأساليب الإحصائية المستخدمة حالياً بشكل رئيسي من قبل الباحثين؛ ولأن نتائجها سيتم نشرها عبر ملايين الفدادين، فإنه ينبغي أن تكون قادرة على تبرير التكلفة.

الحراثة بالأسلاك

الإستخدام الأكثر شيوعاً لتقنية “الزراعة الدقيقة” يكمن في توجيه الجرارات بواسطة ال”جي بي أس” (GPS). يتطلب توجيه المعدات الزراعية يدوياً مشغّلين مهرة وهو مسعى متعب. وحتى أفضل السائقين غالباً ما تتداخل تصاريحهم نسبة تصل إلى عشرة في المئة لتجنب تخطي أجزاء من الأرض. فقد شهدت أواخر تسعينات القرن الفائت إدخال ضوء بصمام ثنائي (ديود)، كل سلسلة من مصابيح هذا النوع من الضوء (المسمى ديود) توضع في صندوق من البلاستيك طويل الذي يوضع أمام مشغِّل الجرار، أو الحصّادة، أو مركبة أخرى. إذا أضيئَت الأنوار في مركز أعلى، فمعنى ذلك أن المعدات تسير على الطريق الصحيح. إذا أُضيئت تلك الموجودة على اليسار أو اليمين، فإن على السائق في هذه الحالة تصحيح التوجيه.
يخطو المزارعون بشكل متزايد بهذه التكنولوجيا إلى خطوتها المنطقية التالية، لتحل محل القضبان الخفيفة مع نظم التوجيه التلقائي التي تصل وتربط بيانات ال”جي بي أس” (GPS) مباشرة بآلية التوجيه في المركبة. على الرغم من أن المشغّل لا يزال بحاجة إلى الجلوس على كرسي القيادة في المركبة، بالنسبة للجزء الأكبر، إلّا أن المركبة يمكنها أن تكون مدفوعة تلقائياً أيضاً في بعض الأحيان. وقد عرفت هذه التكنولوجيا لأول مرة إستخداماً على نطاق واسع في تسعينات القرن الفائت في أوستراليا، حيث التربة غنية بالطين — إضافة الى عدم التجميد والذوبان – الأمر الذي يجعل الحقول عرضة بشكل خاص لضغط من المركبات ذات العجلات. إستخدمت المزارع الأوسترالية ال”جي بي أس” (GPS) الآلي التوجيه لتركيز حركة المركبات على مسارات ضيقة، مانعة ما تبقى من التربة من تلقي أي ضغط. اليوم، يتم توزيع نحو 40 في المئة من الأسمدة والكيماويات الزراعية الأخرى بواسطة التوجيه الآلي في الولايات المتحدة.
وقد أدت هذه الأنظمة إلى العديد من الفوائد العرضية. فئة واحدة هي الآليات التي تتبع مسار جرار وتغلق له تلقائياً البذور المزروعة وعمليات رش المادة الكيميائية عندما يمر فوق أجزاء من الحقل الذي تم تغطيته أو يكون حساساً بيئياً. إن التكنولوجيا هي مفيدة بشكل خاص للحقول غير منتظمة الشكل، والتي هي عرضة للإفراط في الزراعة وفي الرش.
مع ذلك، إن البيانات الجغرافية للأمكنة ليست فقط للحراثة بخطوط مستقيمة. على مدى عقود، عمدت وكالة “ناسا” وبعض نظيراتها الأجنبية إلى تشجيع المزارعين على إستخدام صور أقمارها الإصطناعية. جنباً إلى جنب مع التصوير الجوي، تشكّل هذه الصور الأساس ل”نظم المعلومات الجغرافية”، التي تمكِّن المزارعين من تخزين وتحليل البيانات المكانية. وقد أثبتت هذه التقنية بأنها مفيدة بشكل خاص في المناطق التي تكون فيها البيانات المتاحة هي لسنوات عدة، لأنها تسمح للمزارعين تقسيم الحقول الكبيرة في المناطق التي تتلقى البذور، والأسمدة، والمبيدات المختلفة.
بعض مديري المزارع حتى يستخدمون ال”جي بي أس” (GPS) لمراقبة العاملين لديهم في الحقل، ولا سيما في الإتحاد السوفياتي السابق وبخاصة في أوكرانيا. ولأن اكبر المزارع هناك — وكثير منها يغطي أكثر من 100،000 فدان — تميل إلى الإعتماد على الموظفين المعينين وليس مشغّلين مالكين، فإن مديري المزارع يرغبون في تتبع جميع العمليات الميدانية في الوقت الحقيقي. إذا توقّف جرّار لأكثر من بضع دقائق، على سبيل المثال، فإن المكتب الرئيسي يلاحظ ذلك ويمكنه إستدعاء السائق للإستفسار عن المشكلة. كما تسمح التقنية تتبع المديرين للعاملين الذين يستخدمون ألات الشركة في مزارعهم الخاصة حيث يتخذون بحقهم إجراءات صارمة.

محصول الأحلام

الواقع أن “الزراعة الدقيقة” قد حوّلت فعلياً واحداً من أقدم القطاعات إلى واحد يتمتع بتكنولوجيا عالية المستوى، ولكن الأفضل لم يأتِ بعد. من المرجح أن تنطوي الخطوة التالية على “بيانات كبيرة”. ويدرس المزارعون والشركات الزراعية على نحو متزايد كيفية الإستفادة الأفضل من الكنوز الدفينة في البيانات لزيادة الأرباح وجعل الزراعة أكثر إستدامة. في العام 2013، على سبيل المثال، أقدمت الشركة الزراعية العملاقة “مونسانتو” على الإستحواذ على “مؤسسة المناخ”، وهي شركة مبتدئة أسّسها خريجان من “غوغل” تقوم بإستخدام بيانات الطقس والتربة لإنشاء خطط تأمين للمزارعين وتوليد توصيات بالنسبة إلى محاصيل العنب والمشابهة لها والتي تكون الأنسب لأجزاء معينة من الأرض. وآخر البيانات الكبيرة للفواكه المتدلية هو البحث عن كيفية إستخدام المعدات. على سبيل المثال، فإنه ليس من الواضح مدى السرعة التي يجب أن يكون عليها الجرار عندما تُزرع الذرة: البطء الكثير يجعل العملية غير فعّالة، ولكن النتائج السريعة جداً في زراعة متفاوتة أمر يضرّ بالمحاصيل. مع ذلك، بعد جمع البيانات حول سرعة الجرار، والغلة النهائية للمحاصيل، وعوامل أخرى، يمكن للمرء أن يحدّد السرعة المثلى للزراعة.
من أجل تسخير قوة البيانات الكبيرة، فإن على الشركات تجميع المعلومات عبر المزارع. إن المزارع الفردية في أميركا وأوروبا صغيرة جداً لتوليد كمية مجدية من البيانات، وحتى المزارع الكبيرة جداً في أميركا اللاتينية والإتحاد السوفياتي السابق سوف تستفيد من جمع البيانات مع جيرانها. المشكلة، في هذه اللحظة، هي أن المزارعين ليس لديهم حافز كبير لجمع البيانات. في الولايات المتحدة، حاول بعض الشركات المبتدئة الدفع للمزارعين للحصول على البيانات، من دون نجاح يذكر. حتى الآن، لقد إستطاع مورّدو المدخلات والمزودات الزراعية والتعاونيات الزراعية من جمع أكبر قدر من البيانات. ولكن حتى مجموعات البيانات الخاصة بهم هي صغيرة نسبياً.
بعض من تلك البيانات الكبيرة قد يأتي من طائرات من دون طيار. مع إنسحاب الولايات المتحدة الى حد كبير من أفغانستان والعراق، حوّل بعض موردي المعدات العسكرية إنتباههم إلى الأسواق الزراعية. هذه الخطوة قد تكون ذكية: طائرات صغيرة، من دون طيار يمكنها إلتقاط الصور العادية من المحاصيل لتوجيه الري وإستخدام المبيدات والحصاد. وعلى عكس الأقمار الإصطناعية فإن الطائرات من دون طيار لا تتأثر إلى حد كبير بالغطاء السحابي. نظراً إلى النفقات التشغيلية والخبرات اللازمة، من المرجح أن تستخدم الطائرات من دون طيار تجارياً في البداية فقط للمحاصيل عالية القيمة، مثل العنب والنبيذ. وفي الولايات المتحدة، فإنه يجب على إدارة الطيران الإتحادية أولاً أن تفتح الفضاء أمام الطائرات من دون طيار لإستخدامها تجارياً.
التكنولوجيا التي من شأنها أن تغيّر حقاً الزراعة كما نعرفها هو الروبوت (الإنسان الآلي المتحرك). الإعتماد السريع على توجيه ال”جي بي أس” (GPS) فتح الباب أمام معدات زراعية ذاتية الحكم أكثر، ولقد إختبرت معظم الشركات المصنعة الكبرى فعلياً إنتاجاتها الخاصة لجرارات من دون سائق. بمجرد إزالة السائق من الصورة، فإن معايير التصميم لقطعة من المعدات تتغيَّر جذرياً: يمكنها أن تصبح أصغر بكثير. فمن الممكن أن نتصور المزارع في يوم من الأيام تشغلها مئات من الروبوتات المستقلة الصغيرة، حيث تفعل كل شيء من الزراعة إلى الحصاد. يمكن للروبوتات الكشف على الحقول بشكل مستمر وتحديد الآفات، والمشاكل المرضية في مراحلها الأولى الممكنة. ويمكنها أن توزع المبيدات بجرعات صغيرة، مستهدفةً الحشرات الفردية أو النباتات المريضة. ويمكنها إدارة الحقول الصغيرة والغريبة الشكل بفعالية، مثل تلك الأكثر شيوعاً في شرق الولايات المتحدة، التي يصعب زراعتها بشكل مربح بواسطة المعدات التقليدية التي يقودها البشر. ومن طريق تقليل الحاجة إلى العمال المكسيكيين، فقد تؤثر هذه الروبوتات في أميركا حتى في سياسة الهجرة.
عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيات الناشئة، ستكون فكرة حمقاء لاختيار الفائزين. ولكن تاريخ الزراعة في القرن العشرين يقدم بعض الأدلة على مستقبلها. تقريباً كل التقنيات الزراعية التي إعتمدت على نطاق واسع في القرن الفائت تميّزت بما يسميه الإقتصاديون “المعرفة المجسّدة”، وهذا يعني أن التقدم العلمي قد إحتواها. لم يكن من الضروري أن يعرف المزارعون كيف تقتل المبيدات الحشرات أو الكيفية التي يعمل بها الجرار الذي يسير بواسطة البنزين؛ عليهم فقط أن يعرفوا كيفية رش المادة الكيميائية أو قيادة السيارة.
وبالمثل، فإن أدوات “الزراعة الدقيقة” سوف تعرف إستخداماً على نطاق واسع عندما يتم بيعها في أشكال سهلة الإستخدام. لهذا السبب أصبح توجيه ال”جي بي أس” (GPS) مستخدماً على نطاق واسع جداً: لا يحتاج المزارعون إلى فهم كيفية عمله لإستخدامه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى تكنولوجيا تغيير معدل الأسمدة، لنأخذ مثالاً واحداً، سوف نضع اليوم الذي يستطيع فيه المزارع أن يطلق العمل مع مجرد كبسة زر واحدة. في نهاية المطاف، إن “الزراعة الدقيقة” قد تضع البشر خارج الحلقة تماماً. وعندما يحدث ذلك، فإن العالم ليس فقط سيعرف إرتفاعات كبيرة في الإنتاجية، بل سوف يرى تحوّلاً أساسياً في تاريخ الزراعة: الزراعة من دون مزارعين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى