رِسالَةٌ إلى صَدِيق 

دكتور ناصيف حتّي*

يَعيشُ أكثرُنا اليوم، ونحنُ على أرضِ الوطن، حالةً من الاغتراب القسري. الاغترابُ الذي هو ثمرةُ ما آلَت إليه الأوضاعُ الناتجة عن تَراكُمِ سياساتٍ وخياراتٍ جاءت بها السلطة السياسية في لبنان بكافةِ مُكَوِّناتها وأطرافها وأطيافها ولو بأوقاتٍ وأشكالٍ ودرجاتٍ مُختلفة. نَعيشُ مأساةً وَطَنيّةً وحالةً كارثيةً حيث وصلنا إلى حافةِ الانهيارِ الكُلِّي. نَهرُبُ إلى ماضٍ، شهدَ حروبًا ونزاعاتٍ لكنّه بقي واعدًا، علّه يعود. ونَحلَمُ بمستقبلٍ، بما للبنان من طاقاتٍ وإمكاناتٍ كامِنة ومن قوّةٍ ناعمة في العلم والثقافة لم نُحسِن توظيفها، علّه يأتي. بعضُنا يَهرُبُ في الجغرافيا، وخصوصًا العناصر الشابة متى استطاعت، في ظروفٍ عالمية صارت صعبة. وبعضُنا الآخر يهرُبُ في التاريخ إلى ماضٍ جميل لم يعرف الأزمات القاتلة أو الحادّة التي نعيشها اليوم.

ذكّرني أحدُ الأصدقاء بما كتبتُ، في صيف ٢٠١٥، عشية عودتي إلى لبنان بعد عقودٍ ثلاثة ونَيِّف من الزمن أمضيتُها في العمل الديبلوماسي في الخارج، وقبلها بعض سنوات في الدراسة. وسألني أين أنا اليوم مما كتبت.

وأودُّ أن أشارِكَ القرّاءَ الكرام بما كتبتُ قبل أن أُجيبَ صديقي عن سؤاله أو تساؤله.

كتبتُ حينذاك، وكنتُ في روما، ما يلي:

وأنا أجمَعُ أمتعتي وأُلَملِمُ أوراقي وأستَرجِعُ ذكرياتي ليوم العودة الذي اقترب، اليوم الذي انتظرتُه  لعقودٍ أربعة من الزمن، اليوم الذي اتطلَّعُ إليه، أستذكِرُ يوم تركت -ولا أقول غادرت- لبنان. فلبنان لم يغادرني. إنغرَسَ في قلبي ووجداني وعقلي، وكلّما ازدادت المسافة في الزمان والمكان، ازدادت معها الآلام والأحلام، آلامُ الفراق وأحلامُ الرجوع واللقاء.

يَسألُكَ البعض: لوين راجع؟ لم يَعُد لبنان البلد الذي عرفته .

ولكن هل الوطن فندق خمس نجوم، إذا تغيَّرَ تركته وتنكّرتَ له وانتقلتَ تَبحث عن فندقٍ آخر؟

لم أجد، وربما رفضت في قرارة نفسي أن أجِدَ طعمَ الاستقرار خارج الوطن. الوطن لا يتغيّر حتى لو تغيّرَ الحجر والبشر. الوطن لا يضيع، نحن نُضَيِّعهُ، نَضيعُ عنه ولكنه ينتظرنا دائمًا.

ليَعِش كلٌّ منّا لبنان الذي عرفه، والذي أحبّه، أو لبنان الذي حَلِمَ به. بذلك يعود لبنان الذي نُريد.

مُشتاقٌ إليكَ يا وطني.

مُشتاقٌ لشوارع بيروت الضيِّقة، لمقاهيها التي تضجُّ بالحوار، ولسهراتها التي تَنبُضُ بالحياة. مُشتاقٌ للقرية وأشجارِها وعصافيرِها وبساتينها، وللجبل بقامته وشموخه .

مُشتاقٌ للبنان مُختَبَر تَفاعُلِ الأفكار وساحة صراع السياسات والحوار، وملتقى الثقافة على غناها والفن على تنوّعه .

مُشتاقٌ إليكَ يا وطني أحضُنُكَ وتَحضُنني .

يا صديقي، وها أنا أُجيبك، ما كتبتُ كان حُلمًا، وكلُّ حُلمٍ له شروط ليتحقّق، ولم يكن وهمًا رُغمَ شدّة الصدمة وتداعياتها. صدمةٌ كانت نتيجةَ تراكماتِ مَسارٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ وإداريٍّ بشكلٍ خاص. تغاضى بعضُنا عن قصد أو عن غير قصد، عن جهل أو عن تجاهل، عن تداعياته الطبيعية. لعبة السلطة التي كانت تَحكُمُ وتتحَكّمُ بذلك المسار، والقائمة على فيدرالية الأمر الواقع؛ فيدرالية المذهبيات السياسية القائمة على الولاءات ما دون الوطنية ولو باسم الوطن كما يراه كلٌّ من أسيادها. هذه الفيدرالية  قادتنا إلى ما نعيشه اليوم من أزمة بنيوية حادة تُهدّدُ الوطن، مُجتَمَعًا ودولة، إذا لم نُحسِن التعامُلَ مع تداعياتها، والأهم مُعالجة مُسبّباتها مهما حاول البعض القفز فوقها أو تجاهلها.

سياسة المراهم والرهان على الخارج، المؤثّر بشكلٍ كبير في السياسات الوطنية لأننا فتحنا الباب واسعًا أمام ذلك التأثير في الحياة السياسية، لم تعد تجدي. لم يعد من المفيد الرهان كليًّا على تفاهمٍ خارجي لإخراجِنا من أزمةٍ كما كانت الحال في الماضي. التفاهمُ الخارجي بين القوى المُؤثِّرة، ولو بأشكالٍ مُختلفة من التاثير، أمرٌ مهم ومساعد لكنه غير كافٍ. طبيعة الأزمة الراهنة، التي للتذكير هي نتيجة تراكماتٍ سياسية واقتصادية واخرى، تستدعي المعالجة الشاملة وبالعمق.

يا صديقي، الإنهيارُ الكلّي ليس حتميًّا إلّا إذا استمرَّينا في سياسة المراهم والتأجيل والتسويف والرهانات الخاطئة.

فلنبدأ باحترامِ الاستحقاقات الدستورية كشرطٍ ضروري، ولو غير كافٍ، لإطلاقِ عملية الإصلاح الشامل. عمليةٌ تحتاجُ إلى حوارٍ فعلي وعملي، وبالتالي فاعل، تُشارِكُ فيه كافة المُكوِّنات السياسية. ويرتبطُ النجاح في هذا التحدّي بتوفُّرِ الإرادة، والرؤية الإصلاحية الشاملة القائمة على خطّةِ عمل، وجدولٍ زمنيٍّ واضحٍ للتنفيذ. المطلوب العمل على بناء دولة المؤسّسات، الدولة العادلة،لانها ستكون الدولة القادرة على بناء دولة المواطنة لوقف الانهيار وإطلاق عجلة إعادة البناء وتحقيق الإصلاح الشامل المُتعَدِّد الأبعاد. علينا أن نعودَ إلى الوطن عبر هذه العملية ليعود الوطن إلى كافة أبنائه .

العملية ليست سهلة، ولكن تنفيذها قطعًا هو أمرٌ مُمكن وضروري. فلنَعُد إلى بناء الدولة بالمفهوم الشامل للبناء حتى لا نخسر الوطن.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى