حرب غزّة: لبنان المُسانَدة ولبنان المُواجَهة

سليمان الفرزلي*

في حرب فلسطين الأولى، 1947–1948 لم يكن عددُ الدول العربية المستقلة يتجاوز عدد اليد الواحدة، وهي التي أسّست جامعة الدول العربية قبل ثلاث سنوات من قيام دولة إسرائيل. وقد شاركت فرقٌ من بعض جيوش هذه الدول في تلك الحرب التي انتهت بتوقيع اتفاقيات الهدنة مع إسرائيل بعدَ سنةٍ واحدة فقط من قيامها. ولمّا كانت تلك الدول التي شاركت في حرب فلسطين الأولى حديثة العهد بالاستقلال، فإنَّ جيوشها كانت قليلة العدد وقليلة السلاح والعتاد، وهو ما اقتضى الاستعانة بمُتَطوِّعين من دولِ الجوار انضووا تحت ما أسموه “جيش الإنقاذ” بقيادةِ ضابطٍ سابقٍ في الجيش السوري، (لبناني من مدينة طرابلس)، هو فوزي القاوقجي، ومعظم هؤلاء المتطوعين لم تكن لديهم خبرات عسكرية وإن كان في عدادهم بعض العسكريين السابقين.
كانت نتيجة حرب فلسطين الأولى مهزلة، أدّت بالتالي الى انقلاباتٍ عسكرية في سوريا، ثم الى الثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر. وهذه الانقلابات التي قيلَ إنَّ القضية الفلسطينية كانت من مُحَرِّكاتها الأساسية، لم تكن النتائج التي حققتها في الميدان أحسن حالًا من جيوش 1948، بل أدّت هزائمها الى توسُّعِ الكيان الإسرائيلي في كلِّ الاتجاهات.
وبين الهزيمتَين العسكريتَين، هزيمة 1948 التي أدّت إلى قيامِ دولة إسرائيل واتفاقيات الهدنة معها، وهزيمة 1967 التي أحدثت تغييرات نوعية، منها إطلاق ما أسموه “عملية السلام” بعد النجاح النسبي الذي حققه الجيشان المصري والسوري في حرب 1973، نشأت حركة فلسطينية مقاومة، باسم منظمة “فتح” وذراعها العسكري منظمة “العاصفة”، والتي انتهت الى عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل في أوسلو، لم يبقَ منها سوى حكومة محمود عباس الدهرية في رام الله.
وخلال ذلك المسلسل الطويل من الانقلابات، والحروب، وعمليات المقاومة، جرى تصنيفٌ للدول العربية التي كانت ما تزال في حالةِ حربٍ مع إسرائيل الى نوعَين: دولٌ للمُواجَهة ودولٌ للمُساندة. وقد جرى تصنيفُ لبنان بأنه “دولةُ مُسانَدة” بسبب ضعف قوته العسكرية وتعقيدات تركيبته السياسية، ولذلك لم ينخرط في حرب فلسطين الثانية لعام 1967، أسوةً بسوريا ومصر والأردن، وكلها على تماسٍ حدودي مع إسرائيل.
لكن هذا الوضع اللبناني لم يصمد كثيرًا بسبب انتقال الثورة الفلسطينية وقيادتها إلى لبنان بعد طردهما من الأردن. وبذلك انعكست الآية بحيثُ أصبح لبنان هو دولة مواجهة، بل دولة المواجهة الوحيدة، حتى بعد إطلاق ما سُمِّيَ “عملية السلام”. وقد اختارت الدولة اللبنانية أن تكون كذلك، بتوقيع اتفاق القاهرة مع منظمة التحرير الفلسطينية، وهو الاتفاق الذي أُجيزَ بموجبه أن تتواجد المقاومة الفلسطينية بشكلٍ قانوني في الجنوب اللبناني، بل في معظم مناطق الداخل اللبناني، فانتشرَ السلاحُ في جميع أنحاء لبنان، بحيث أصبحت الدولة اللبنانية هي الطرف الأضعف في بلدها، وما زال هذا الوضع ساريًا من سيِّئٍ إلى أسوَإٍ.
وهكذا صار لبنان، وما زال، دولة المواجهة الوحيدة بين الدول العربية، بينما تحوّلت الدول العربية كلها الى “دول مساندة”، ومنها مَن أصبحت دولًا مُسانِدة لإسرائيل بطُرُقٍ مختلفة، منها المعاهدات، ومنها التطبيع، ومنها التعاون الأمني، بما في ذلك حكومة رام الله الفلسطينية.
ومما زادَ الأمرُ تعقيدًا، أنَّ المقاومة الإسلامية في لبنان بقيادة “حزب الله”، ليست مُجَرَّد أمرٍ واقع كما كانت المقاومة الفلسطينية من قبل. وشرعية “حزب الله” مُكتَسَبة وليست طارئة ولا تحتاج الى معاهدة أو إجازة. بمعنى أنَّ “حزب الله” هو جُزءٌ من النسيج الوطني اللبناني، ومُشارِك أساسي في الحكومة وفي العملية السياسية، بل هو الناخب الأول لرئيس الجمهورية. وأبرز أوجه هذا التعقيد أنَّ الجُزءَ بات أقوى من الكل في تركيبةٍ سياسية يحكمها توازنٌ دقيق لا يَحتَمِلُ أدنى خلل، حيث الخلل هو المدخل التاريخي للحروب الأهلية المتواصلة في لبنان منذ منتصف القرن التاسع عشر.
لكن هناك مؤشرات إلى أنَّ الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، مدركٌ تمامًا لدقّة الموقف وحراجته. ومن ذلك مؤشِّران أساسيَّان: المؤشِّر الأول تأكيده على أنَّ العمليات العسكرية التي أطلقها على الحدود مع الكيان الإسرائيلي في الثامن من تشرين الأول  (أكتوبر) الماضي، هي عمليات محسوبة من حيث مُراعاة المصلحة الوطنية اللبنانية العليا، أي أنه يُدرِكُ أنَّ مشاركته في الحرب الجارية مع إسرائيل حاليًا، لا تحظى بموافقة فئات عديدة في لبنان، وربما في البيئة الحاضنة للمقاومة ذاتها. وثاني تلك المؤشرات، وصفه للوضع الميداني بأنه من قبيل “المساندة”، ما يعني إحياء الطريقة اللبنانية السابقة لتجنّب المخاطر القصوى بإعلان لبنان دولة مساندة وليس دولة مواجهة، بالإضافة الى إعلانه عن فرصة مؤاتية لاسترجاع الأراضي اللبنانية المُحتَلّة والعودة الى الحدود الدولية النهائية السابقة لقيام الكيان الإسرائيلي.
فاللبنانيون، مع تزايد إمكانية اتساع رقعة الحرب، وما يرافق ذلك من دمار شامل، كانوا بحاجة ماسَّة إلى نوعٍ من التطمين الذي قدّمه لهم السيد نصر الله، لكونهم يعيشون في حالةٍ غير مسبوقة من القلق بفعل الوضع الاقتصادي والمالي والمصرفي غير الطبيعي الذي انساقوا إليه على غير هدى في المرحلة التي نشأت بعد اتفاق الطائف لإنهاء الحرب الأهلية، من خلال إقامة توازن غير متوازن، إذا صح التعبير، وبفعل ارتكاز اقتصاد ما بعد الحرب على أسُسٍ غير إنتاجية.
ويمكن القول الآن، تبعًا لذلك، إنَّ الديبلوماسية أخذت الآن تُسابقُ الحرب، وربما سوف تسبقها في وقت قريب.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى