المغرب يردّ على تحويل روسيا الغذاء إلى سلاحٍ سياسي

أظهر المغرب، باستثمارٍ إجمالي قدره 6.3 مليارات دولار لبناء مصانع أسمدة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، تبصّرًا وبُعدَ نظرٍ استراتيجيًا ملحوظًا. للمساعدة على مواجهة التهديد الروسي المتمثل في تسليح العلاقة بين الغذاء والطاقة، تُظهر الرباط أهميتها المتزايدة لأوروبا والولايات المتحدة كشريك جيوسياسي في القارة السمراء.

المكتب الشريف للفوسفاط: يرد على تسليح روسيا للغذاء بزيادة إنتاج الأسمدة

البروفسور مايكل تانتشوم *

بعد 100 يوم من الحرب في أوكرانيا على الجانب الشرقي لأوروبا، انفتحت جبهةٌ جديدة حاسمة على الجناح الجنوبي لأوروبا مع أزمةِ غذاءٍ في إفريقيا. واتّهمت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، موسكو بالتسبّب بمجاعة واستخدامها كسلاحٍ ضد إفريقيا. وفي الوقت الذي تسعى أصلًا لمواجهة تقدّم قوات موسكو غربًا في أوكرانيا، تتعرّض أوروبا لضغوطٍ الآن لمنع أزمة هجرة جماعية ناجمة عن المجاعة مقبلة إلى شواطئها الجنوبية من شمال إفريقيا. ونظرًا إلى أن أوروبا تواجه حرب استنزاف جيو-اقتصادية مع روسيا، فإن خطة المغرب لزيادة إنتاج الأسمدة بنسبة 70٪ تقريبًا تُغَيِّرُ المعادلة الاستراتيجية من خلال مواجهة قدرة موسكو على استخدام العلاقة بين الغذاء والطاقة كسلاح. وبذلك، أظهر المغرب أهميته المتزايدة كشريكٍ جيوسياسي لأوروبا والولايات المتحدة في إفريقيا جنوب الصحراء.

عندما غزا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022، فجّرَ أيضًا المُكافئ المالي لقنبلة ميغا طن داخل النظام الاقتصادي العالمي على شكل تضخّم. أدّى نقصُ السلع الناتج عن تعطيل الحرب لسلاسل التوريد إلى ارتفاعِ أسعار المستهلكين في جميع أنحاء العالم. كان التأثير الفوري محسوسًا في سلاسل إنتاج الغذاء، لا سيما في الدول الأفريقية التي تُعاني من انعدام الأمن الغذائي على الحدود الجنوبية لأوروبا. إن الشاغل الفوري للاتحاد الأوروبي، الذي يُركّز فعليًّا على دعم أوكرانيا المُحاصَرة، هو أن الهجرة بسبب الجوع من إفريقيا يمكن أن تكون أكثر مما يستطيع الاتحاد الأوروبي التعامل معها. وسط مخاوف من قيام أعداد كبيرة من المهاجرين بمحاولة العبور بالقوارب المحفوفة بالمخاطر من شمال إفريقيا، حذّرت نائبة رئيس المفوضية الأوروبية، مارغريتيس شيناس، من أن الهجرة بسبب الجوع من إفريقيا “لن تكون سهلة الإدارة” ، مُضيفةً: “لدينا مصلحة عالمية في تجنّب هذا”.

للتوضيح، روسيا ليست مسؤولة عن أزمة الغذاء العالمية. وكما حذّر تقريرٌ سابق لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن، فقد كانت أزمة الغذاء منتشرة طوال العام 2021. في أوائل حزيران (يونيو) 2021، وصل تضخّم أسعار الغذاء بالفعل إلى المستوى نفسه الذي كان عليه قبل انتفاضات “الربيع العربي” في العام 2011 التي هزّت شمال إفريقيا. في ذلك الوقت، أدى ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى نزول الناس إلى الشوارع مع هتافات “الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية” إلى أن سقطت الأنظمة القديمة في تونس ومصر وليبيا في تَتابُعٍ سريع. خلال الأشهر الستة الأخيرة من العام 2021، استمر تضخّم أسعار الغذاء في الارتفاع فوق مستويات “الربيع العربي”. في الربع الثالث من العام 2021، بلغ سعر القمح الليِّن المُستَخدَم في صناعة الخبز 271 دولارًا للطن، بزيادة قدرها 22٪ عن العام السابق. وارتفع السعر في الربع الأخير من العام 2021 إلى أكثر من ذلك، واعتبارًا من 3 آذار (مارس) 2022، أي بعد أسبوع واحد فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا، وصل السعر إلى ما يقرب من 389 دولارًا للطن. لقد ضغطت موسكو ببساطة على النقاط الضعيفة في نظامٍ غذائي عالميٍّ هشٍّ أصلًا وبدأ هذا النظام في الانهيار بسبب نقاط ضعفه.

في إفريقيا، كانت حالة الأمن الغذائي قاسية أصلًا: فهي تضم نسبة عالية من السكان، 21٪، يعانون من الجوع الشديد أكثر من أيِّ منطقة في العالم. وحذّرَ تقرير منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة لعام 2021 عن حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم من أن هناك ما يقدر بنحو 282 مليون شخص يعانون من نقص التغذية في إفريقيا، أي ما يعادل 85٪ من إجمالي سكان الولايات المتحدة. في حين أن روسيا ربما تكون صبّت البنزين على نيران أزمة الغذاء، إلّا أنها لم تشعل النار في المقام الأول.

المغرب في مواجهة تسليح العلاقة بين الغذاء والطاقة

تبدأ مرونة النُظُم الغذائية تحت التربة بالأسمدة، وهي أساس العلاقة بين الغذاء والطاقة. خلقت الأسمدة الحديثة الزيادات الهائلة في غلّات المحاصيل التي دفعت إلى الازدهار السكاني في العالم على مدار المئة عام الماضية، حيث قفز من حوالي 1.8 مليار إلى 7.9 مليارات نسمة حاليًا. نظرًا إلى أن روسيا هي أكبر مُصدّر للأسمدة في العالم، فإن الأسمدة تمثل إحدى أكبر نقاط الضعف لكلٍّ من أوروبا وأفريقيا. وتعتمد دول الاتحاد الأوروبي الـ27 نفسها على الاتحاد الروسي في 30٪ من إمداداتها من الأسمدة.

تحتل روسيا مكانة متميزة من خلال وضعها كثاني أكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم، لأن الغاز هو مكوِّنٌ رئيس للأسمدة القائمة على النيتروجين. يتم توصيل النيتروجين، وهو عنصر غذائي كبير تتطلبه النباتات للنمو، من طريق الأسمدة مثل مركبات النيتروجين والهيدروجين الأمونيا واليوريا. يأتي الهيدروجين من الغاز الطبيعي الذي يمثل سعره 80٪ من التكلفة المتغيرة للأسمدة. حتى قبل الحرب في أوكرانيا، كانت أسعار الغاز الطبيعي ترتفع بشكل حاد. اعتبارًا من تشرين الأول (أكتوبر) 2021، ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا بنسبة 400٪ منذ كانون الثاني (يناير) من ذلك العام. شهد ارتفاع الأسعار زيادة تكلفة الأمونيا إلى 1000 دولار للطن في تشرين الثاني (نوفمبر) 2021 مقارنة بـ 110 دولارات في وقت سابق من العام. وبناءً عليه، ارتفع سعر الأسمدة الأكثر شيوعًا إلى أعلى مستوى له منذ 10 سنين.

أدّت الحرب الروسية-الأوكرانية إلى ارتفاع الأسعار، مما حوّل الأسمدة إلى أزمة وجودية للأمن الغذائي العالمي. فرضت أكبر دولتين مصدرتين للأسمدة في العالم، روسيا والصين، اللتين تمثلان مجتمعة 28.4٪ من الصادرات العالمية، قيودًا على تصدير الأسمدة. بعد أسبوعين من الغزو الروسي لأوكرانيا، خفضت شركة الأسمدة الأوروبية العملاقة في أوروبا، “يارا”، إنتاج الأمونيا في مصانعها الإيطالية والفرنسية بأكثر من النصف بسبب ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي بينما أغلق المنتجون الآخرون في أوروبا أبوابهم بالكامل.

في حين أن أزمةَ إمدادات الأسمدة ستُسَجِّل ارتفاعًا حادًا في أسعار المواد الغذائية على رفوف السوبر ماركت الأوروبية في خريف العام 2022 ، فإن نقصَ الإمدادات قد يؤدي إلى كارثة لأفريقيا. في العام 2006، بَلَغَ متوسط ​​استخدام الأسمدة في إفريقيا 8 كلغ للهكتار، أي 10٪ من المتوسط ​​العالمي، ما دفع الاتحاد الأفريقي إلى تبنّي هدف رفع متوسط ​​استخدام الأسمدة إلى 50 كلغ للهكتار. تُشيرُ التقديرات المُتفائلة إلى أن متوسط ​​استخدام الأسمدة في إفريقيا أخيرًا يبلغ 19 كلغ فقط للهكتار. بسبب نقص الإمدادات المتاحة بأسعار معقولة أو حتى المُتاحة، قلّل المزارعون الأفارقة من استخدامهم للأسمدة في الزراعة هذا العام إلى القليل أو لا شيء. من الآن فصاعدًا، قد يؤدي ضعف المحاصيل المحلية وارتفاع أسعار الغذاء العالمية إلى دفع ملايين الأفارقة إلى المجاعة وإلى الهجرة بسبب المجاعة.

المغرب هو رابع أكبر مُصدّر للأسمدة في العالم، بعد روسيا والصين وكندا. في 17 أيار (مايو) 2022، أعلنت مجموعة الأسمدة المغربية العملاقة “المكتب الشريف للفوسفاط” أنها ستزيد إنتاجها من الأسمدة لعام 2022 بنسبة 10٪، مما يضع 1.2 مليون طن إضافية في السوق العالمية بحلول نهاية العام. ويعكس هذا الرقم قدرة المجموعة المغربية على إنشاء خط إنتاج بطاقة مليون طن في ستة أشهر. وقد صرح المدير المالي ل”امكتب الشريف للفوسفاط” أن المجموعة تخطط لزيادة طاقتها الإنتاجية بين العامين 2023 و2026 بمقدار 7 ملايين طن إضافية، أو 58٪ عن مستويات الإنتاج الحالية. قرار تجاري ذكي من قبل المكتب الشريف للفوسفاط لزيادة حصته في السوق العالمية، فإن زيادة مستويات إنتاج المجموعة من شأنها أن تتصدى لقدرة روسيا على تحويل الأسمدة إلى أسلحة ونقص الغذاء. بالقيام بدور مماثل تقريبًا لدور المملكة العربية السعودية في سوق النفط العالمية، يمكن أن يصبح المغرب هو البنك المركزي لسوق الأسمدة العالمي وحارس الإمدادات الغذائية في العالم.

دور المغرب الاستراتيجي المتنامي في إفريقيا جنوب الصحراء

يشير دور المغرب في مواجهة تسليح أزمة الغذاء إلى الدور الاستراتيجي المتزايد للمملكة في الأمن الغذائي لأفريقيا جنوب الصحراء. وكما ذكرت دراسة معهد الشرق الأوسط في واشنطن حول التواصل الزراعي المغربي في إفريقيا، افتتح المكتب الشريف للفوسفاط فروعًا في 12 دولة أفريقية منذ العام 2016، وأنشأ مرافقَ خَلطٍ محلية لمعايرة الأسمدة على وجه التحديد لتربة كل بلد أفريقي وتمكين المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة من المشاركة بشكلٍ أفضل وأكثر ربحية في سلاسل القيمة الزراعية. نتيجةً لذلك، قفز محصول الدخن في السنغال بنسبة 63٪ ومحصول الذرة في نيجيريا بنسبة 48٪، مع نتائج مماثلة في غانا وأماكن أخرى. كما شهدت مشاركة المكتب الشريف للفوسفاط في إثيوبيا زيادة في محاصيل القمح والذرة وحبوب التف بنسبة تصل إلى 37٪.

يقوم المكتب الشريف للفوسفاط ببناء مصانع أسمدة في أفريقيا جنوب الصحراء كمشاريع مشتركة مع أصحاب المصلحة المحليين. في نيجيريا، التي تقع على أكبر احتياطات من الغاز الطبيعي في القارة، تقوم المجموعة المغربية وشركاؤها النيجيريون ببناء مصنع للأمونيا والأسمدة بقيمة 1.4 مليار دولار بهدف مضاعفة كمية الأسمدة التي يستخدمها المزارعون النيجيريون ثلاث مرات في غضون خمس سنوات. وتستثمر المجموعة 1.3 مليار دولار لبناء مجمع أسمدة صناعي في غانا، باستخدام الغاز الطبيعي الغاني وخدمة أسواق غرب إفريقيا. بالنسبة إلى أسواق شرق إفريقيا، يقوم مكتب الشريف للفوسفاط ببناء ثاني أكبر مجمع لإنتاج الأسمدة في إفريقيا في إثيوبيا، كمشروع مشترك وباستخدام موارد الغاز المحلية. ويتوقع المكتب الشريف أن تُوَفِّرَ المرحلة الأولى من التطوير البالغة 2.4 ملياري دولار لسوق الأسمدة الإثيوبية في العام 2023.

يبقى أن المغرب قد أظهر، باستثمارٍ إجمالي قدره 6.3 مليارات دولار لبناء مصانع أسمدة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، تبصّرًا وبُعدَ نظرٍ استراتيجيًا ملحوظًا. للمساعدة على مواجهة التهديد الروسي المُتمثّل في تسليح العلاقة بين الغذاء والطاقة، تُظهر الرباط أهميتها المتزايدة لأوروبا والولايات المتحدة كشريك جيوسياسي في إفريقيا جنوب الصحراء. مع ترابط الاقتصاد الجغرافي وقرب وسهولة الوصول التي تجلب الأهمية الجيوسياسية لأفريقيا إلى تركيزٍ أكثر حدة،  فمن المرجح أن تتكثّف المشاركة الاستراتيجية لأوروبا والولايات المتحدة مع المغرب.

  • البروفسور مايكل تانتشوم هو زميل غير مقيم في برنامج الاقتصاد والطاقة في معهد الشرق الأوسط. وهو أستاذ في جامعة نافارا وزميل كبير مشارك للسياسة في برنامج إفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية . وهو أيضًا زميل كبير في المعهد النمساوي للسياسة الأوروبية والأمنية. يمكن متابعته عبر تويتر على @michaeltanchum

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى